فالرحلة المباركة الطيبة الميسرة ـ إن شاء الله ـ مستمرة مع قصص هذا الكتاب المبين العظيم،
انتهينا بشكل موجز من المقدمات، وهذه الحلقة ندخل في صميم قصص القرآن الكريم، وقصة آدم أول
ما تطالعه العين من قصص هذا الكتاب العظيم الكريم.
ومنهجنا في التعاطي مع القصص في هذه الحلقات هو أن نأخذ قصص سورة سورة.
كان يمكن أن نأخذ إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ في القرآن كله، نأخذ موسى ـ عليه الصلاة والسلام
ـ في القرآن كله، أو نأخذ قصص سورة سورة واخترت أن يكون هذا هو المنهج،
أن نأخذ سورة سورة ونستعرض قصص سورة سورة، فنبدأ بقصص سورة البقرة.
أعطيكم فكرة أولا عن سورة البقرة التي تُسمى فسطاط القرآن الكريم. يعني أيه فسطاط؟
يعني الخيمة الكبيرة في هذا المخيم العظيم، هذه الخيمة العظيمة هي سورة البقرة، كل عبادات الإسلام
في سورة البقرة. الصوم لم يرد إلا في سورة البقرة، 286 آية هذه السورة الكريمة، أول سورة نزلت
في المدينة المنورة بعد مرحلة الاستخلاف. هذه السورة على طولها فيها الصلاة، والصوم والزكاة
والحج، يعني الإسلام كله في هذه السورة، الصوم لم يرد إلا هنا، ولكن على طولها المستغرق ثلاثة أجزاء تقريبًا لها موضوع واحد. نعم، كل سورة كالعنقود لها موضوع واحد، ولله المثل الأعلى ولكلامه، قد نجد عنقود عنب يبلغ اثنين كيلو أو ثلاثة كيلو، ولكنه عنقود واحد، وإن كان فيه أيضًا عناقيد فرعية، هذه السورة وسطها بالضبط الآية رقم 143 {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً}(البقرة: الآية143) ضمت جناحيها هذه السورة العظيمة على طائفة عظيمة من القصص، استعرضت بعضها في المقدمات لما قلت: أنه هناك تناسق وذكرت أمثلة على هذا التناسق قصص سورة البقرة التي فيه معنى الإحياء بعد الموت إن كنتم لا زلتم تذكرون، و أظنكم تذكرون ـ إن شاء الله تعالى ـ.
أيضًا من ملامح قصص هذه السورة أنه يدور في نطاق بني إسرائيل، جله أو كله في نطاق بني إسرائيل. قلت أن موضوع هذه السورة على اتساعه ورقعتها ومساحتها موضوع واحد هو تربية أمة لا إله إلا الله، تربية أمة محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ الأمة الوسط. لذلك تجد أول السورة (الم{1} ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ{2} الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ{3} والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ{4}) آخر السورة (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) إذاً مرتين في أول السورة (يؤمنون)، ومرتين في آخر السورة (آمن) يعني كأنه الفعل المضارع أول السورة تطلع إلى الأهداف التي نريد إنجازها من هذه الأمة، آخر السورة فعل
ماضي، الأهداف أُنجزت، مثل آيات الصيام (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(البقرة: الآية183) في أول آيات
الصيام، وآخر آية (لعلكم تتقون) رجع لها من جديد كأنه ما وضعناه نصب العين من أهداف رجعنا نعيده لأنه تحقق وأُنجز وهكذا.
هذه السورة قلت أول سورة نزلت بعد مرحلة الاستخلاف التي أعقبت مرحلة الاستضعاف، ستجد المشهد الوحيد فيه عن آدم (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً )(البقرة: الآية30) هذه السورة، ليه؟ لينسجم الاستخلاف مع الاستخلاف، يعني بالعربي استخلاف آدم والكلام عنه ينسجم مع الأمة في مرحلة الاستخلاف، والله شيء عظيم، هذا التناسق العجيب.
(وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً )(البقرة: الآية124) إذًا جاعل في الأرض خليفة، وهنا يقول إني جاعلك للناس إماما، ولا تنسوا أيضًا أنه في هذه السورة الكريمة (إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً)(البقرة: الآية247) ثم عن داوود (وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ)(البقرة: الآية251) وفي معنى الخلاف والاستخلاف أن هذه السورة كلمتنا عن أمة استخلفت فتخلفت عن شرائط الاستخلاف. أمة بني إسرائيل، تكلمنا عن أمة جاء عليها وقت استخلفت في الأرض لينظر الله تعالى ماذا يصنعون، فتخلفوا عن مواصفات الاستخلاف وشرائط الاستخلاف، فنُزعت الخلافة منهم، وجاء بدلهم أقوامٌ آخرون، وهذه الأمة بالذات لأنه الأرض لله يرثها عباده الصالحون.
ففي هذه الأجواء تأتي قصة آدم، في جو استخلاف الأمة، استخلاف إبراهيم،
استخلاف طالوت، استخلاف داوود، استخلاف بني إسرائيل. رأيتم التناسق، ألوان لا تنتهي والله، وأنا ما ذكرته ما هو إلى قطرة من بحر ليس أكثر، أو غرفة من هذا البحر.
على كل حال، هذه فكرة عامة عن سورة البقرة وقصصها، قصصها أغلبه مر معنا مفصلا في الأعراف وغير الأعراف. فهنا جاء بشكل ومضات أو فلاشات سريعة جدًا، فتح ملف أو تقليب صفحات موجز جدًا. لذلك كثير من قصص هذه السورة القصة في آية، أو آية في قصة، يعني موجزة، قصص هذه السورة ومضات سريعة خاطفة، وكلها متعلقة ببني إسرائيل. يعني يا بين إسرائيل ملفاتكم عندنا، لا تتطاولوا على هذه الأمة، ولا تمكروا، وتثبطوا، ولا تقعدوا لها بكل صراط لأنه ملفاتكم معنا، سنفتحها لكم ملف ملف. أنتم الذين فعلتم، أتذكرون اعتدائكم في السبت؟ فاكرين عبادتكم للعجل من دون الله؟ فاكرين لما آذيتم موسى؟ أتذكرون لما أخذتكم الصاعقة، وهكذا ملفات سريعة تقلبها سورة البقرة.
قصة آدم أعدها وهي كذلك ـ إن شاء الله ـ حجر الزاوية في قصص القرآن، وحجر الأساس في قصة
هذا الإنسان على هذه الأرض على هذا الكوكب. قصة آدم مهمة جدًا، تعرفنا بأنفسنا ما وظيفتنا،
ما نحن، ما نقاط ضعفنا، يعني أنتم شايفين أول امتحان رسبنا فيه في هذه القصة، امتحان المعدة امتحان الطعام. لا تأكلوا من الشجرة، أكلوا من الشجرة، رسبنا، لكن فيه إكمال، فيأتي الصيام في هذه السورة بالذات. يعني أول امتحان رسبنا فيه امتحان الطعام، فأفرض عليكم الصيام حتى تقووا هذه النقطة الضعيفة والجبهة التي يخترقها العدو يجب أن تقووها، كانت فريضة أو ركن الصيام. انسجام لهذا الكلام، ألوان من الهارموني والتناسق عجيبة جدًا. لكن اعمل عقلك يطلع مع من الكنوز الشيء الكثير ـ إن شاء الله تعالى ـ وإياك والإسرائيليات فإنها تعطل ملكاتك، وقدراتك، ومواهبك وعقلك،
فإياك، وليه؟ ما تمشي على التحليل بدل ما تمشي على روايات بني إسرائيل و القال والقيل مثل ما قلنا قبل قليل.
إذًا تبدأ قصص السورة الكريمة البقرة بقصة آدم ـ عليه الصلاة والسلام ـ وها نلاحظ أنه أُعلن عن الوظيفة قبل الموظف. يعني لسه آدم مش موجود، لكن يُعلن في الملأ الأعلى احتفاءً به،
وإكرامًا له وتهيئة للأجواء لاستقباله. أنت أيها الإنسان الوجود كله يُبشر بك قبل أن توجد،
واسمك يُسمى قبل أن تولد، وظيفتك تحدد قبل أن توجد على الأرض.