
مقالة عن الرق فى الاسلام..لماذا لم يحرر الاسلام الرقيق كاملا
مقالة عن الرق فى الاسلام..لماذا لم يحرر الاسلام الرقيق كاملا , جاء الإسلام ، و الرّقّ نظام معترف به في جميع أنحاء العالم ، بل كان عملةً اقتصاديّة و اجتماعيّة متداولة
، لا يستنكرها أحد ، و لا يفكّر في إمكان تغييرها أحد . لذلك كان تغيير هذا النظام أو محوه أمراً يحتاج إلى تدّرج
شديد و زمن طويل . و قد احتاج إبطال الخمر
إلى بضع سنوات . و الخمر عادة شخصيّة قبل كلّ شيء ،
و أن كانت ذات مظاهر اجتماعيّة ، و كان بعض العرب أنفسهم
في الجاهليّة يتعفَّفون عنها ، و يرون فيها شرّاً لا
يليق بذوي النفوس العالية . و الرّقّ كان أعمق في كيان
المجتمع و نفوس الأفراد ، لاشتماله على عوامل شخصيّة
و اجتماعية و الاقتصاديّة . ولم يكن أحد يستنكره كما أسلفنا
. لذلك كان إبطاله في حاجة إلى زمن أطول ممّا تتَّسع
له حياة الرسول ، و هي الفترة التي كان ينزل فيها الوحي
بالتنظيم و التشريع . فلو كان الله يعلم أنّ إبطال الخمر
يكفي فيه إصدار تشريع ينفَّذ لساعته ، لما حرّمها في بضع سنوات . و لو كان يعلم أنّ إبطال الرّقّ يكفي له مجرّد
إصدار ( مرسوم ) بإلغائه ، لما كان هناك سبب لتأخّر هذا المرسوم !
كان الرقيق في عرف الرومان ـ و هم الأصل في استرقاق الأناسي ـ يُعدّ ( شيئاً ) لا ( بشراً ) ( شخصاً إنسانيّاً )!
شيئاً لا حقوق له البتّة ـ كالبهائم و الأمتعة ـ و إن كان عليه كلُّ ثقيلٍ من الواجبات .
و لنعلم أولاً : من أين كان يأتي هذا الرقيق ؟ كان يأتي من طريق الغزو و النهب و الأسر، ولم يكن الغزو لفكرة
و لا لمبدأ ، و إنّما كان سببه الوحيد شهوة الاستيلاء و الاستثمار و استعباد الآخرين و تسخيرهم لمصلحة المترفين .
فلكي يعيش الروماني عيشة البذخ و الترف ، يَسْتمتع بالحمّامات الباردة و الساخنة ، و الثياب الفاخرة ، و أطائب
الطعام من كلّ لون ، و يغرق في المتاع الفاجر من خمر و نساء و رقص و حفلات و مهرجانات ، كان لا بدّ لكلّ هذا
من استعباد الروماني ، و كان الرّقّ الذي نشأ من ذلك الاستعمار .
أمّا الرقيق فقد كانوا ـ كما ذكرنا ـ أشياء ليس لها كيان البشر و لا حقوق البشر . كانوا يعملون في الحقول و هم
مصفَّدون في الأغلال الثقيلة التي تكفي لمنعهم من الفرار ، ولم يكونوا يُطعمون إلاّ إبقاءً على وجودهم ليعملوا ،
لا لأنّ من حقّهم ـ حتّى كالبهائم و الأشجار ـ أن يأخذوا حاجتهم من الغذاء . و كانوا ـ في أثناء العمل ـ يساقون
بالسوط ، لغير شيء إلاّ اللذّة الفاجرة التي يحسبها السيّد أو وكيله في تعذيب المخلوقات . ثُمَّ كانوا ينامون في
( زنزانات ) مظلمة كريهة الرائحة تعيث فيها الحشرات و الفئران ، فيلقون فيها عشرات عشرات قد يبلغون خمسين
في الزنزالة الواحدة ـ بأصفادهم ـ فلا يتاح لهم حتّى الفراغ الذي يتاح بين بقرة في حظيرة الحيوانات .
ذلك كان الرقيق في العالم الروماني . و لا نحتاج أن نقول شيئاً عن الوضع القانوني للرقيق عندئذٍ ، و عن حق
السيّد المطلق في قتله و تعذيبه و استغلاله دون أن يكون له حقّ الشكوى ، و دون أن تكون هناك جهة تنظر في
هذه الشكوى أو تعترف بها فذلك لغو بعد كلّ الذي سردناه .
ولم تكن معاملة الرقيق في فارس و الهند و غيرها ، تختلف كثيراً عمّا ذكرنا من حيث إهدار إنسانيّة الرقيق إهداراً
كاملاً ، و تحميله بأثقل الواجبات دون إعطائه حقّاً مقابلها ، و إن كانت تختلف فيما بينها ( الرومان و الفرس و الهند )
قليلاً أو كثيراً في مدى قسوتها و بشاعتها .
و إذا كان هذا شأن الرقيق في بلاد متحضّرة ، فكيف يا ترى شأنه في أوساط متأخّرة ، في مثل الجزيرة المتوغّلة في جهالة العماء و الغيّ و الفساد . كان يعيش أحدهم على حساب دمار الآخرين و كان ذلك مفخراً لهم . يقول أحدهم :
أبحنا حيّهم قتلاً و أسراً *** عدى الشمطاء و الطفل الصغير!
و كفى لشناعة حالتهم الاجتماعيّة ، وأد البنات 1 .
قتل الأولاد مخافة الإملاق ، 2 .
و أشنع من الجميع : التعيّش على حساب بغاء الفتيات 3 .
ففي مثل هذا المجتمع الذي يعيش الأسياد على حساب
إكراه الفتيات ( الأرقّاء ) على البغاء و ارتكاب الفحشاء ، جاء الإسلام ليكافح ، فمن أين يكافح ، وكيف يكافح ؟
جاء الإسلام ليردّ لهؤلاء البشر إنسانيّتهم المغتصبة منذ عهد سحيق !
جاء ليقول للسّادة عن الرقيق : أنتم و هو سواء ﴿ … بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ … ﴾ 4 5. و قال يوم الفتح بمكّة : أيّها النّاس ،
إنّ الله قد أذهب عنكم عُبْيَةَ الجاهليّة 6 . و تعظمها بآبائها . فالناس رجلان : بَرٌّ تقيٌّ ، كريم على الله . و فاجر شقيٌّ
، هيّن على الله . و الناسُ بنو آدم ، و خَلَق الله آدم من تراب . قال الله : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى
وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ … ﴾ 7 8 .
و معنى ذلك أنّ الناس كلّهم ـ الأسياد و العبيد ـ إخوة من ولد أبٍ واحد و أُمّ واحدة . و لا فضل فيمن أصله من تراب
إلاّ بالأحساب .
جاء في رسالة الحقوق التي بعثها الإمام زين العابدين ( عليه السَّلام ) إلى بعض أصحابه : ” و أمّا حقّ مملوكك فأن تعلم أنّه خلق ربّك و ابن أبيك و أُمّك و لحمك و دمك . . . ” 9 .
و في ذلك فرض الأخوة ـ الأصيلة ـ بين السيّد و عبده المملوك له . الأمر الذي لم يكن يطيقه منطق البشريّة آنذاك ، لكن الإسلام فرضه فرض حتم .
جاء في مسائل على بن جعفر عن أخيه موسى ( عليه السَّلام ) : الرجل يقول لمملوكه : يا أخي و يا ابني ،
أيصلح ذلك ؟
قال ( عليه السَّلام ) : ” لا بأس “10 . أي لا حزازة بعد فرض المساواة في أصل النسب !
و زيادة في رعاية مشاعر الرقيق الرسول الكريم : ” لايقل أحدكم : هذا عبدي و هذه أمتي ، و ليقل : فتاي و فتاتي
” 11 . و على ذلك يستند أبو هريرة فيقول لرجل ركب و خَلْفه عبدهُ يجري : ” احمله خلفك ، فإنّه أخوك و روحه مثل
روحك ” 12 .
و قد فرض الإسلام على السّادة أن يساووا بين أنفسهم و العبيد من غير أن يتفاضلوا عليهم .
قال المعرور بن سويد الأسدي الكوفي ـ من كبار التابعين ـ : دخلنا على أبي ذرّ بالرَّبَذة ، فإذا عليه برد ،
و على غلامه مثله . فقلنا : لو أخذت برد غلامك إلى بردك ، كانت حُلّة ، و كسوته ثوباً غيره ! قال : سمعت رسول
الله ( صلى الله عليه و آله ) يقول : ” إخوانكم ، جعلهم الله تحت أيديكم ، فمن كان أخوه تحت يده ، فليطعمه ممّا
يأكل ، و ليكسه ممّا يلبس ، و لا يكلّفه ما يغلبه ، فإن كّلفه ما يغلبه فليُعِنه ” 13 .
و روى إبراهيم بن محمّد الثقفي في كتاب الغارات بإسناده إلى مختار التمّار قال : أتى أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) سوق الكرابيس ، فاشترى ثوبين أحدهما بثلاثة دراهم ، و الآخر بدرهمين . فقال : يا قنبر ، خذ الذي بثلاثة ! قال : أنت أولى به يا أمير المؤمنين ، تصعد المنبر و تخطب الناس . فقال : يا قنبر ، أنت شابّ و لك شره الشباب ، و أنا أستحيي من ربّي أن أتفضّل عليك ، لأنّي سمعت رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) يقول : ألبسوهم ممّا تلبسون ، و أطعموهم ممّأ تأكلون 14 .
وكان من مكارم أخلاقه ( صلى الله عليه و آله ) الأكل مع العبيد ، و ليكون سنّة من بعده ، أي التنازل مع الأرقّاء ، لغرض الترفيع بهم .15 و كان يجيب دعوة المملوك على خبز الشعير ، و لا يترفّع عليه 16 .
وفي كتاب الإمام أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) إلى ابنه الحسن : ” و أحسن للمماليك الأدب . . . ” 17 .
و هكذا كان يفعل ذرّيّته الأطياب : كان الإمام علي بن موسى الرضا
( عليه السَّلام ) إذا خلا جمع حشمه كلّهم الصغير و الكبير فيحدّثهم
و يأنس بهم و يُؤنسهم . و كان إذا جلس على المائدة
لا يدع صغيراً و لا كبيراً حتّى السائس و الحجّام إلاّ أقعده معه على مائدته 18 .
و في حديث آخر : كان إذا خلا و نصبت مائدته ، أجلس
معه على مائدته مماليكه و مواليه ، حتّى البواب و السائس 19 .
و من هنالك لم يعد الرقيق شيئاً ـ
كما حسبه الرومان ـ
و إنّما صار بشراً له
روح كروح السّادة ،
و قد رفعه الإسلام إلى مستوى الأخوة الكريمة ،
لا في عالم المثال و الأحلام فحسب ، بل في عالم الواقع كذلك .
***
و كان ( صلى الله عليه و آله ) يشدّد النكير على من أساء بعبده و يؤكّد على وجوب الرفق معهم . قال رسول الله : ألا اُنبّئكم بشرّ الناس : من سافر وحده . و منع رفده . و ضرب عبده 20 .
قال أبو مسعود الأنصارى : كمن أضرب غلاماً ، فسمّعني من خلفي صوتاً : ” إعلم أبا مسعود ، إعلم أبا مسعود ، إنّ الله أقدر عليك منك عليه ” .
فالتفتُّ فإذا هو النبي ( صلى الله عليه و آله ) ، فقلت : يا رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) هو حرٌّ لوجه الله .
فقال : ” أما لولم تفعل لَلَفَعَتْكَ النارُ ” 21 .
قال الصادق ( عليه السَّلام ) : ” من افترى على مملوك عزّر ، لحرمة الإسلام ” 22 .
و روى قتادة عن الحسن عن سمرة بن جندب ، قال :
قال رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) : “
من قتل عبده قتلناه ، و من جدع عبده جدعناه ، و من أخصى عبده أخصيناه ” 23 .
و روى الشيخ بإسناده الصحيح إلى السكوني
عن الصادق عن آبائه عن علي ( عليه السَّلام ) أنّه قتل حرّاً بعبدٍ قَتَله عمداً 24 .
و روى أنّ علي بن الحسين ( عليه السَّلام )
ضرب مملوكاً ثمَّ دَخَل إلى منزله فأخرج السوط ،
ثمَّ تجرّد له ، قال : اجلد علي بن الحسين فأبى ، فأعطاه خمسين ديناراً 25 .
و بذلك قد أصبح الرقيق كائناً إنسانيّاً له كرامة يحميها القانون ،
و لا يجوز الاعتداء عليها بالقول و لا بالفعل . فأمّا القول فقد نهى الرسول ، السّادة عن تذكير أرقّائهم بأنهم أرقّاء و أمرهم أن يخاطبوهم بما يشعرهم بمودّة الأهل ، و ينفي عنهم صفة العبوديّة ، و قال لهم في معرض هذا التوجيه : إنّ الله ملّككم إيّاهم ، ولو شاء لملّكهم إيّاكم ” 26 . فهي إذن مجرّد سادة!
و بذلك يغضّ من كبرياء هؤلاء ، و يردّهم إلى
الآصرة البشريّة التي تربطهم جميعاً ،
و المودّة التي ينبغي أن
تسود علاقات بعضهم ببعض .
و أمّا الاعتداء الجسدي فعقوبته
الصريحة هي المعاملة بالمثل
، ” من افترى على مملوك عزّر . . ” و ” من جدع عبده جدعناه . . .
” . و هو مبدأ صريح الدلالة على المساواة الإنسانيّة الكاملة
بين الرقيق و السّادة ، و صريح في بيان الضمانات
التي يحيط بها حياة هذه الطائفة من البشر ـ التي
لا يخرجها وضعها العارض عن صفتها البشريّة الأصيلة ـ و هي ضمانات كاملة و وافية . تبلغ حدّاً عجيباً لم يصل إليه قطّ تشريع آخر من تشريعات الرقيق في التاريخ كلّه ، لا قبل الإسلام و لا بعده ، إذ جعل مجرّد ضرب العبد ـ في غير التأديب ـ27 مبرّراً قانونيّاً لتحرير الرقيق !!28 .
بل و رفع من مكانتهم حتى أجاز الائتمام بهم في الصلاة ـ و هي أفضل عبادات الإسلام ـ . جاء في ( قرب الإسناد ) للحميري عن الإمام الصادق عن آبائه عن علي ( عليه السَّلام ) قال : ” لابأس يؤمّ المملوك إذا كان قارئاً ” 29 .
و ليكون ذلك دليلاً على صلاحيتّهم لتصّدي
جميع المناصب الرسميّة و غير الرسمية في النظام
الإسلامي و أن لا فرق بينهم و بين الأحرار في ذات الأمر .
و هذا من المساواة في أفخم و أضخم شكلها المعقول .
و لذلك نرى الرسول ( صلى الله عليه و آله ) قد أمّر زيداً مولاه على رأس جيش فيه كبار الأنصار و المهاجرين . فلمّا قتل زيد ولّى ابنه اُسامة قيادة الجيش و فيهم أبوبكر و عمر فلم يعط الرقيق بذلك مجّرد المساواة الإنسانيّة ، بل أعطاه حقّ القيادة و الرئاسة على الأحرار . فأعطى العبيد بذلك الحق في أرفع مناصب الدولة كلّها .
و قد وصل الإسلام في حسن المعاملة وردّ الاعتبار الإنساني للرقيق إلى درجة عجيبة ، حتى و لقد آخا الرسول ( صلى الله عليه و آله ) بين بعض العبيد و بعض أكابر الأصحاب من سادة العرب ، فآخى بين بلال بن رباح و أبي رُويحة الخثعمي ، و بين مولاه زيد و عمّه حمزة 30 ، و كانت هذه المؤاخاة صلة حقيقيّة تعدل رابطة الدم و النسب .
كما و زوج بنت عمته زينب بنت جحش من مولاه زيد . و الزواج مسألة حسّاسة جدّاً و خاصّة من جانب المرأة ، فهي تأبى أن يكون زوجها دونها في الحسب و النسب و الثراء ، و تحسّ أنّ هذا يحطّ من شأنها و يغضّ من كبريائها . و لكن الرسول كان يهدف إلى معنى أسمى من كل ذلك ، و هو رفع الرقيق من الوهدة التي دفعته إليها البشريّة الظالمة ، إلى حيث مستوى أعظم سادة العرب من قريش .
كلّ ذلك هي خطوات واسعة لتحرير الرقيق روحيّاً ، بردّه إلى الإنسانيّة ، و معاملته على أنّه بشر كريم ، لا يفترق
عن السادة من حيث الأصل ، و إنّما هي ظروف عارضة حدّت من الحريّة الخارجيّة للرقيق في التعامل المباشر مع المجتمع ، و فيما عدا هذه النقطة كانت للرقيق كلّ حقوق الآدميّين .
و لكن الإسلام لم يكن ليكتفي بهذا المقدار ، لأنّ قاعدته الأساسيّة العظمى هي المساواة الكاملة بين البشر ، و هي التحرير الكامل لكلّ بشرٍ ! و كلّ الذي تقدّم كان تمهيداً للبلوغ إلى هذه الغاية ، و التي كان النبيّ ( صلى الله عليه و آله ) يترقّبها ، إمّا في حال حياته أو فيما بعد ، ترقباً غير بعيد .
قال ( صلى الله عليه و آله ) : ” مازال جبرائيل يُوصيني بالمماليك حتّى ظننت أنّه سيجعل لهم وقتاً إذا بلغوا ذلك الوقت أُعتقوا ” 31 .
و بالفعل جعل وسيلتين كبيرتين : هما العتق و الكتابة إلى التحرّر التامّ . هذا فضلاً عن رفض مطلق لأسباب الاسترقاق ـ و التي كانت متفشّية و عن طرق معادية ـ و النهب و الأسر و الإغارة الغاشمة . كان الإسلام يرفضها رفضاً باتّاً . و بذلك انسدّ ـ شرعيّاً ـ باب الاستراقاق نهائياً منذ ذلك الحين .
و يكفيك نموذجاً عن شناعة نظام الاسترقاق في العصر الجاهلي ، حادث استرقاق زيد بن حارثة الذي تبنّاه الرسول الأعظم ( صلى الله عليه و آله ) :
كانت اُمّه سُعْدى بنت ثعلبة من بني معن من طىء ، أرادت أن تزور قومها فاصطحبت ابنها زيداً و هو لم يبلغ الثمانية من عمره ، فما أن وردت القوم إلاّ و أغارت عليهم خيل بني القين ، فنهبوا و سلبوا و أسروا ، و من جملة الاُسارى زيد ، فقدموا به سوق عكاظ ، فاشتراه حكيم بن حزام لعمّته خديجة بنت خويلد . فوهبته خديجة للنبيّ ( صلى الله عليه و آله ) بمكّة قبل البعثة ، و كان زيد قد بلغ الثمانية .
و كان أبوه قد وجد لفقده وجداً شديداً ، قال فيه :
بكيتُ على زيد ولم أدر ما فعل *** أحيّ يُرجّى أم أتى دونه الأجل
فوالله ما أدري و إن كُنت سائلاً *** أغالك سهل الأرض أم غالك الجبل
فياليت شعري هل لك الدهر رجعة *** فحسبي من الدنيا رجوعك لي علل
تذكرنيه الشمسُ عند طلوعها *** و يعرض ذكراه إذا قارب الطفل
و اِن هبّت الأرواح هيّجن ذكره *** فياطول ما حزّني عليه و يا وجل
سأعمل نصّ العيش في الأرض جاهداًَ *** و لا أسأم التطواف أو تسأم الابل
حياتي أو تأتي عليّ منيّتي *** و كلّ امرئ فانٍ و إن غرّه الأمل
. . .إلى آخر أبيات له تنبؤك عن شديد حزنه الذي لم يزل يكابده . . .
ثمَّ إنّ اُناساً من كلب ( قوم زيد ) حجّوا فرأوا زيداً فعرفهم و عرفوه و قال لهم : أبلغوا عنّي أهلي هذه الأبيات ،
فإنّي أعلم أنّهم جزعوا عليّ فقال :
أحنّ إلى قومي و إن كنت نائياً *** فإنّي قعيد البيت عند المشاعر
فكفّوا من الوجد الذي قد شجاكم *** و لا تعملوا في الأرض نصّ الأباعر
فإنّي بحمد الله في خير أسرة *** كرامٍ معدًّ كابراً بعد كابر
فانطلق الكلبيّون فأعلموا أباه و وصفوا له موضعه و عند من هو ، فخرج حارثة و أخوه كعب لفدائه فقدما مكّة فدخلا على النبيّ ( صلى الله عليه و آله ) فقالا : يا ابن عبد المطّلب ، يا ابن هاشم ، يا ابن سيّد قومه ، جئناك في ابننا عندك فامنن علينا و أحسن إلينا في فدائه ! فقال : من هو ؟ قالا : زيد بن حارثة . فدعاه و خيّره فاختار البقاء فيكنف رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) و رضيا بذلك .
و كان ( صلى الله عليه و آله ) قد عزم على تبنّيه ، فتبنّاه على ملأ من قريش ، فأصبح مولاه عن رضا نفسه 32 .
فيا ترى هل من المعقول أنّ شريعة ـ كشريعة الإسلام الداعية إلى تحرّر الإنسانية ـ تقرّر من رقّيّة مثل زيد ، بهذا
الشكل الفضيع المشجى الذي تمجّه النفوس الأبيّة فضلاً عن العقول الحكيمة !؟
كلاّ ، لايقرّره أبداً ، ما عرفنا من الإسلام دين الفطرة ، دين الإنسانية المتحرّرة ، الذي يأمرهم بالمعروف و ينهاهم عن المنكر ، و يحلّ لهم الطيّبات و يحرّم عليهم الخبائث و يضع عنهم إصرهم و الأغلال التى كانت عليهم 33 .
قالوا :
و هنا يخطر السؤال الحائر على الأفكار و الضمائر : إذا كان الإسلام قد خطا هذه الخطوات كلّها نحو تحرير الرقيق ،