شرح الحديث ( يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني….)

شرح الحديث ( يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني….)

 

(عن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:قال اللهُ تعالى : يا ابنَ آدمَ ! إنَّك ما دعوتَني ورجوتَني غفرتُ لكَ على ما كانَ منكَ ولا أُبالِي، يا ابنَ آدمَ ! لوْ بلغتْ ذنوبُك عنانَ السماءِ ثمَّ استغفرتَني غفرتُ لكَ ولا أُبالِي، يا ابنَ آدمَ ! لوْ أنَّك أتيتَني بقُرَابِ الأرضِ خطايا ثمَّ لقيتَني لا تشركْ بي شيئًا لأتيتُك بقرابِها مغفرةً) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.

    1. هذا الحديث هو خاتمة الأربعين حديثاً التي جمعها الإمام النووي رحمه الله والتي عرفت باسم
    2. (الأربعين النووية)
    3. وهذا الحديث فيه سعة رحمة الله ولطفه جل وعلا ، كما قال ابن دقيق العيد رحمه الله في شرح الأربعين النووية : هذا الحديث بشارة عظيمة، وحِلْمٌ وكرم عظيم، وما لا يحصى من أنواع الفضل والإحسان، والرأفة والرحمة والامتنان .
    4. ◙ قال الجرداني رحمه الله: إن هذا الحديث أرجى حديث في السنة، وفيه دلالةٌ على سعة رحمة الله تعالى وكرمه وجوده، لكن لا يجوز لأحد أن يغتر به وينهمك في المعاصي، وإنما القصد منه بيان كثرة مغفرته تعالى؛ لئلا ييئس المذنبون منها بكثرة الخطايا ( الجواهر اللؤلؤية شرح الأربعين النووية (377).)
    5. شرح الحديث
    6. (يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني) (ما) هنا مصدرية ظرفية، أي: مدة دعائك إياي ورجائك فيما عندي، وقد تكون (ما) هنا شرطية، وفعل الشرط: (دعا) في قوله: “دَعَوتَنِي” وجواب الشرط: “غَفَرْتُ” وإذا أردنا أن نعرف: (ما) الشرطية نجعل مكانها: (مهما) فلو قلت: مهما دعوتني ورجوتني غفرت لك لصح المعنى .
    7. (ولا أبالي) أي: لا يعظم عليَّ كثرتها، فهو سبحانه لا يسأل عما يفعل.
    8. فلا ينبغي لعبد أن يستعظم ذنبا بجانب عفو الله ، فيقول: لن يغفر الله لي، لن يقبلني الله عز وجل ، فمهما كان ذنبك وخطؤك طالما دعوته واستغفرته فإنه يغفر لك .
    9. قال تعالى قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم ) الزمر/53
    10. وعد العلماء من جملة الكبائر اليأس من رحمة الله كما قال يعقوب لبنيه -( يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون )- [يوسف/87] فالله يغفر الذنوب جميعا ولا يرد سائلا أبدا .
    11.  
    12. وفي الحديث عن أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي، فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ “
    13.  
    14. الواحد منا لو أساء في حق أحد يحمل ألف هم كيف يقابله وكيف يعتذر ويسترضيه ، لكن -سبحان الله العظيم- علمنا الله ألا نستعظم ذنبا بجانب عفوه -سبحانه وتعالى- فمهما أذنبت أقبل على ربك وتب إليه ،واستغفره فإنه يغفر ولا يبالي ، فليس هناك ذنب عظيم على ألا يغفره الله .
    15. وصدق الشاعر حينما قال:
    16. أنا خاطئ أنا مذنب أنا عاص *** هو راحم هو غافر هو كافي
    17. قابلتهن ثلاثة بثلاثة **** ولتغلبن أوصافه أوصافي
    18. فأنا عبد خاطئ مذنب عاص أما هو الله جل جلاله فهو راحم غافر كافي فهذه الأوصاف الثلاثة من العبد يقابلها تلكم الثلاثة صفات لله ، ولا شك أن صفاته أعظم وأكمل وأتم ، فبرحمته سبحانه يغفر ويستر ويرحم، ولتغلبن أوصافه أوصافي.
    19. يقول ابن القيم :
    20. إن في القلب شعثًا لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله في خلوته، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفة الله وصدق معاملته، وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار منه إليه، وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه ومعانقة الصبر على ذلك إلى لقائه، وفيه فاقة لا يسدّها إلا محبّة الله والإنابة إليه ودوام ذكرِه وصدق الإخلاص له، ولو أعطِي العبد الدنيا وما فيها لم تسدّ تلك الفاقة منه أبدًا.
    21. فليتك تَحلـو والْحيـاة مريـرة وليتك ترضـى والأنام غضاب
    22. وليـت الـذي بينِي وبينك عامر وبيني وبين العـالَمين خـراب
    23. إذا صحّ منك الـود فالكـل هين فكـلّ الذي فوق التراب تراب
    24. قال ابن سعدي رحمه في تفسير قوله تعالى: (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ) هو الغفور الذي يغفر الذنوب جميعها لمن تاب، ويعفو عن السيئات لمن استغفره وأناب، وهو الودود الذي يحبه أحبابه محبة لا يشبهها شيء، فكما أنه لا يشبهه شيء في صفات الجلال والجمال فمحبته في قلوب خواص خلقه لا يشبهها شيء من أنواع المحاب”.
    25.  
    26. ولهذا كانت محبته أصل العبودية، وهو تعالى الودود الوادُّ لأحبابه، والمودّة هي المحبة الصافية، وفي هذا سرّ لطيف حيث قرنَ الودود بالغفور ليدل ذلك على أن أهلَ الذنوب إذا تابوا إلى الله وأنابوا غفَر لهم ذنوبهم وأحبَّهم، فلله الحمد والثناء وصفو الوداد، ما أعظمَ برَّه وأكثر خيرَه وأغزرَ إحسانه وأوسعَ امتنانَه، وسعت رحمته كلَّ شيء، وعمّ بفضله كلَّ حيّ.
    27.  
    28. (يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك)
    29. العنان هو السحاب، والمعنى: أن الخطايا لو صارت جسما له حجم وكتلة فبلغت بحجمها إلى أن ملأت الأرض بل ووصلت للسحاب إشارة إلى كثرتها (ثم استغفرتني) أي: طلبت مني مغفرتها بصدقٍ وإخلاص وافتقار،
    30. (غفرت لك) إياها غير مبالٍ بكثرتها؛ وذلك لأن كرم الله تعالى وفضله ورحمته لا تتناهى؛ فهي أكثر وأوسع مما ذكر.
    31.  
    32. وقد امتدح الله عز وجل عباده المتقين بقوله: (‏‏وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ ولم يصروا على مافعلوا وهم يعلمون‏‏.) آل عمران 135.
    33. وهذا الاستغفار هو المقرون بالعزم على ترك الذنب وعدم الإصرار عليه، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والمستغفر من ذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه)، فإذا أقلع العبد عن الذنب وعزم على عدم العود إليه واستغفر الله عز وجل غفر الله له؛ ولهذا في حديث أبي بكر الصديق عن النبي قال: (ما أصرّ من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة) أخرجه أبو داود والترمذي.
    34. (يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة)
    35. قوله: “لَوْ أَتَيْتَنِيْ” أي جئتني بعد الموت.
    36. (قراب) تقرأ بضم القاف وكسرها أي ما يقارب ملء الأرض.
    37. (خَطَايا )جمع خطيئة وهي الذنوب .
    38. وهذه مبالغة أيضا فلو أن الذنوب تجسمت وبلغت ما يقارب ملء الأرض، ثم لقيت الله على التوحيد لا تشرك به شيئا،(لأتيتك بقرابها مغفرة) يعني مغفرة تمحو كل هذه الذنوب .
    39.  
    40. وفي هذا يقولُ بعضُهُم:
    41. يَاكبِيرَ الذَّنْبِ عَفْوُ اللَّهِ ** مـنْ ذَنْبِكَ أَكْبَرُ
    42. أَعْظَمُ الأَشْيَاءِ فِي جَنْبِ ** عَفْوِاللَّهِ يَصْغُرُ
    43.  
    44. وقالَ آخَرُ:
    45. يارَبِّ إنْ عَظُمَتْ ذُنُوبِيَ كَثْرَةً ** فَلَقَدْ عَلِمْتُ بأنَّ عَفْوَكَ أَعْظَمُ
    46. إنْ كَانَ لا يَرْجُوكَ إلاَّ مُحْسِنٌ ** فمَن الَّذِي يَرْجُو وَيَدْعُو المُجْرِمُ
    47. مَالي إِلَيْكَ وَسِيلَةٌ إِلاَّ الرَّجَا ** وَجَمِيلُ عَفْوِكَ ثمَّ أَنِّي مُسْلِمُ
    48. هل معنى ذلك أن لو مات المسلم على التوحيد فقط يكفيه ليغفر الله له؟
    49.  
    50. _هناك فارق بين من فعل الصغائر ومن فعل الكبائر، فالصغائر لا يخلو منها إنسان، وقد وعد الله بمغفرتها فقال تعالى: -( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما) – [النساء/31]
    51.  
    52. _أما الكبائر فمن مات موحدا لله لكنه مصرا على كبيرة فإن عبارة أهل السنة تقول: (من مات على كبيرة فهو واقع في خطر المشيئة إن شاء الله عذبه بعدله وإن شاء عفا عنه بفضله)
    53.  
    54. _وقد يجعل الله للعبد مكفرات دون أن يشعر بأن يرزقه التوبة النصوح فيبدل الله سيئاته حسنات قال تعالى: -( إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما) – [الفرقان/70]
    55.  
    56. -أو يوفقه لعمل صالح قبل الموت كما في الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله بعبده خيراً استعمله) قالوا: كيف يستعمله؟ قال: (يوفقه لعمل صالح قبل موته) رواه الإمام أحمد وصححه الألباني.
    57.  
    58. _أو تكون هناك شدائد كالمرض قبل الموت، أو شدة خروج الروح أو في القبر وكذلك بين يدي يوم القيامة حين يغرق الناس في عرقهم على قدر أعمالهم، فعن المقداد – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: ” تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق، حتى تكون منهم كمقدار ميل، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمهم العرق إلجاما “، وأشار رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بيده إلى فيه. رواه مسلم.
    59.  
    60. _فهذه كلها للتنقية والتطهير من الذنوب ، أيضا لا ننس شفاعة الأنبياء والشهداء والصالحين ، فإن كانت ذنوبه أكثر من ذلك غمس في النار بمقدار ما يطهر من ذنوبه ثم يخرج منها لأن الجنة دار الأبرار الأطهار لا يدخلها إلا كل من طهُر من الذنوب ، فهو لا يدخل الجنة أولا وإنما يدخلها آخرا ولذلك يقول علماؤنا (لا يخلد موحد في النار)
    61.  
    62. _ومن لقي الله مشركا يخلد في النار، قال تعالى : -( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما )- [النساء/48]
    63. وقال تعالى : -( إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار )- [المائدة/72]
    64. وهذا جمع وتوفيق بين النصوص الواردة .
    65. الإسراف في الترهيب :
    66. _والحديث يفتح باب الأمل دائما لكل من عصى وأسرف وقصر في حق ربه، وبعض الخطباء يسرف في جانب الترهيب ولو بالقصص المكذوبة ناسيا الترغيب في رحمة الله الواسعة .
    67. ومن ذلك :
    68. الأثر المروي عن أبي بكر الصدِّيق رضي الله عنه ” لو أن إحدى قدمي في الجنة والأخرى خارجها ما أمنت مكر الله ” : فمع أنه أثر مشهور متداول، إلا أني لم أقف عليه مسنداً لا بسندٍ صحيح ولا ضعيف ،وهو يتنافى مع ما ورد عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : قال النبي – صلى الله عليه وسلم – : يقول الله تعالى : ( أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم ، وإن تقرب إلي بشبر تقربت إليه ذراعا ، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا ، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة ) فلا يتصور مؤمن أبدا أن عبدا من عباد الله وضع أحد قدميه في الجنة ثم يقول له الله ارجع فلن تدخلها !!!
    69. ثم إن مكر الله يكون بالعاصين والكافرين وليس بالمؤمنين .
    70. ويذكرون عن البعض أنه بكى من خشية الله حتى أصابه العمى !!!
    71. ومنهم من كان يبكي حتى تجري دموعه من الميزاب!!!
    72. _
    73. وفي الصحيح من كتاب الله وهدي رسول الله غنية عن هذا كله من المبالغات والقصص التي لا أساس لها من الصحة قال تعالى : -( ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون )- [الأعراف/156]
    74. ويقول عمر بن عبد العزيز : “اللهم إن لم أكن أهلا أن أبلغ رحمتك ، فإن رحمتك أهل أن تبلغني ، فرحمتك وسعت كل شيء وأنا شيء ، فلتسعني رحمتك يا أرحم الراحمين”

  1. فهذا الحديث ليس لفتح باب التكاسل عن أداء العبادات وتسويف التوبة والتواكل على المغفرة ؛ كلا بل هو لفتح أبواب الرحمة والأمل في وجه العصاة عساهم يتوبوا ويرجعوا إلى الله -سبحانه وتعالى-
  2.  
  3. الفوائد من الحديث:
  4. 1- الحديث أصل في باب التوبة والحث عليها.
  5. 2- أن الذنوب وإن عظمت إذا استغفر الإنسان ربه منها غفرها الله له.
  6. 3- فضل الدعاء والرجاء في طلب المغفرة.
  7. 4- فضل التوحيد، وأنه سبب لمغفرة الذنوب؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾ [النساء: 116].
  8. 5- الحديث يبين ضعف الإنسان، وكثرة ذنوبه، وعِظَمَ الله وسَعةَ رحمته.
السابق
الرفق في حياة النبي صلى الله عليه وسلم
التالي
كيف ربى الرسول ﷺأتباعه على العزة والكرامة

اترك تعليقاً