حكم علماء الدين حول عادة الجلوس للسلام على الكبير

حكم علماء الدين حول عادة الجلوس للسلام على الكبير

اعتادَ الناس في بلادنا عادات وتقاليد ورثوها أبًا عن جدٍّ؛ يحاولون بها إظهار التعظيم من الصغير للكبير، ومن الطالب لأستاذه، ومن الزوجة لزوجها، وتتجسَّد هذه العادة في صورة أنه إذا أراد الصغير السلامَ على الكبير فإنه يجلس أمامه أولًا كهيئة الجلوس بين السجدتين، جاثيًا على ركبتيه، ثم يَمُدُّ يدَه ليُسلِّمَ على من يقف أمامه؛ بحيث يكون أحدهما جالسًا جاثيًا على ركبتيه وهو المُسَلِّمُ، والآخر واقفًا مستقيمًا أمامه وهو المُسَلَّمُ عليه.
فهل هذا العملُ مخالف لتعاليم وآداب الشريعة الإسلامية؟ وهل هذا الجُثوُّ على الركب يُعدُّ من فعل الأعاجم الذين يُعظمُ بعضهم بعضًا، والذي نهى عنه رسولنا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم؟ أفيدونا أفادكم الله.

الجواب : الأستاذ الدكتور / شوقي إبراهيم علام

أمرنا الشرع الشريف بإكرام أهل الفضل وذوي الشرف من العلماء والصالحين والآباء والشيوخ، ومراعاة مقادير الناس ومراتبهم؛ بأن يُعرفَ لكل واحدٍ قدره ويُنزَّلَ منزلتَه؛ فعن أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه قال: نزل أهل قُريظة على حكم سعد بن مُعاذٍ رضي الله عنه، فأرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليه، فأتى على حمارٍ، فلما دنَا من المسجدِ قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم للأنصار: «قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ، أَوْ خَيْرِكُمْ» متفق عليه.
قال العلَّامة شرف الدين الطيبي في “الكاشف عن حقائق السنن” (9/ 2739، ط. نزار الباز): [وفي قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ» إكرامُ أهل الفضل وتلقيهم والقيام لهم إذا أقبلوا، واحتجَّ به الجمهور، قال القاضي عياض: “ليس هذا من القيام المنهي عنه، وإنما ذاك فيمن يقومون عليه وهو جالسٌ ويتمثلون قيامًا طولَ جلوسه”] اهـ.
وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أَنْزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ» ذكره مسلمٌ في “مقدمة صحيحه”، ورواه أبو داود في “السنن”، والبيهقي في “شعب الإيمان”، و”الآداب”.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاء شيخٌ يريدُ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم، فأبطأ القومُ عنه أن يوسِّعوا له، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا» رواه الترمذي في “الجامع”.
وعن عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا، وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيَعْرِفْ لِعَالِمِنَا حَقَّهُ» رواه الإمام أحمد والبزار والشاشي في “مسانيدهم”، والطحاوي في “شرح مشكل الآثار”، والطبراني في “مكارم الأخلاق”، والحاكم في “المستدرك”.
وعن أَبي أُمامةَ رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: «ثَلَاثَةٌ لَا يَسْتَخِفُّ بِحَقِّهِمْ إِلَّا مُنَافِقٌ: ذُو الشَّيْبَةِ فِي الْإِسْلَامِ، وَذُو الْعِلْمِ، وَإِمَامٌ مُقْسِطٌ» رواه الطبراني في “المعجم الكبير”.
وعلى ذلك جرت أفعال الصحابة الكرام رضي الله عنهم؛ فقد كانوا معظِّمين لأهل العلم والفضل، كما كانوا على غاية التوقير والتعظيم لأهل البيت النبوي الكريم:
فأخرج أبو بكر الدِّينَوَريّ في “المجالسة وجواهر العلم” (4/ 146) عن الشعبيِّ قال: [ركب زيد بن ثابت رضي الله عنه، فأخذ ابن عباس رضي الله عنهما بركابه، فقال له: “لا تفعل يا ابنَ عمِّ رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم ” فقال: “هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا”، فقال زيدٌ رضي الله عنه: “أرني يدك”، فأخرج يده فقبَّلها وقال: “هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا صلى الله عليه وآله وسلم”] اهـ.
قال العلَّامة ابن مفلح الحنبلي في “الآداب الشرعية” (1/ 226، ط. عالم الكتب): [وقال الشعبي: أخذ ابن عباس رضي الله عنهما بركاب زيد بن ثابت رضي الله عنه، وقال: “هكذا يُصنَع بالعلماء”، وقال أيوب عن مجاهد: “إنَّ ابن عمر رضي الله عنهما أخذ له بالركاب”، وأخذ الليث بركاب الزهري، وقال الثوري عن مغيرة: “كنا نهاب إبراهيم كما نهاب الأمير”، وكذلك أصحاب مالك مع مالك.. وقال الربيع: “والله ما اجترأت أن أشرب الماء والشافعي ينظر؛ هيبة له، وقال الشافعي رضي الله عنه: “إذا رأيت رجلًا من أصحاب الحديث فكأنما رأيت رجلًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم”] اهـ.
ومن هيئات الأدب والاحترام: الجثوُّ على الركبتين، وهو وإن كان هيئة من هيئات الصلاة، ومن هيئات الدعاء والتضرع لله تعالى، إلا أنَّه قد ورد في السنة النبوية الشريفة وقوعها من المسلم على سبيل الأدب والاحترام والإكرام لأهل الفضل وفي مقام التعلم، وبوّب على ذلك الإمام البخاري في “الصحيح” بقوله: (باب: من برك على ركبتيه عند الإمام أو المحدث)، ثم روى فيه حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج، فقام عبد الله بن حذافة رضي الله عنه فقال: “من أبي؟” فقال: «أَبُوكَ حُذَافَةُ»، ثم أكثر أن يقول: «سَلُونِي»، فبرك عمر رضي الله عنه على ركبتيه فقال: “رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وآله وسلم نبيًّا”، فسكت صلى الله عليه وآله وسلم] اهـ.
قال الإمام أبو الحسن علي بن خلف ابن بطال في “شرح صحيح البخاري” (1/ 172، ط. مكتبة الرشد): [وفى بُروكِ عمر رضي الله عنه عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم: الاستجداءُ للعالِم، والتواضعُ له] اهـ.
وقال الإمام ابن الملقن في “التوضيح لشرح الجامع الصحيح” (3/ 465، ط. دار الفلاح): [وبروك عمر رضي الله عنه على ركبتيه: أدبٌ منه، وإكرامٌ للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وشفقةٌ على المسلمين؛ لئلا يؤذي أحدٌ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم فيهلك، وقد ظهر أثر ذَلِكَ بسكوته صلى الله عليه وآله وسلم إذ ذاك، وفي بعض الروايات: فسكن غضبه، فلم يزل موفَّقًا في رأيه، ينطق الحق عَلَى لسانه] اهـ.
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: كنتُ جالسًا عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إذ أقبل أبو بكر رضي الله عنه آخذًا بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ غَامَرَ» فسلَّم وقال: “إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء، فأسرعت إليه ثم ندمت، فسألته أن يغفر لي فأبى علي، فأقبلت إليك”، فقال: «يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ» ثلاثًا، ثم إنَّ عمر رضي الله عنه ندم، فأتى منزل أبي بكر رضي الله عنه، فسأل: أثمَّ أبو بكر؟ فقالوا: لا، فأتى إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم فسلَّم، فجعل وجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتمعَّرُ، حتى أشفق أبو بكر رضي الله عنه، فجثا على ركبتيه، فقال: يا رسول الله، والله أنا كنت أظلم، مرتين، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ اللهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ كَذَبْتَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ صَدَقَ، وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صَاحِبِي» مرتين، فما أوذي بعدها” أخرجه الإمام أحمد في “فضائل الصحابة”، والبخاري في “الصحيح”، والطبراني في “مُسند الشاميين”، وأبو نُعيم في “الحلية”، والبيهقي في “السنن الكبرى”.
قال العلامة الكوراني في “الكوثر الجاري” (6/ 435، ط. دار إحياء التراث العربي): [(فجثا على ركبتيه) تأدبًا وشفاعة لعمر] اهـ.
وجاء في حديث جبريل عليه السلام: حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفَّيْه على فَخِذَيْه” أخرجه الإمام مسلم في “صحيحه” من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وفي رواية: “حتى ورَّك بين يدَيْ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ كما يجلس أحدُنا في الصلاة” أخرجه أبو عوانة في “مستخرجه على صحيح مسلم”، وابن البختري في “أماليه”، والدارقطني في “سننه”، والبيهقي في “السنن الكبرى”، و”الصغرى”، و”الاعتقاد”.
قال العلامة شرف الدين الطيبي في “شرح المشكاة” (2/ 422، ط. مكتبة الباز): [وإنما جلس هكذا: ليتعلم الحاضرون جلوسَ السائل عند المسئول؛ لأنَّ الجلوسَ على الركبة أقربُ إلى التواضع والأدب] اهـ.
وفي مسند الإمام أحمد أن شهاب بن مدلج أتى المدينة، فلقي أبا هريرة رضي الله عنه، فسمعه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أَفْضَلُ النَّاسِ رَجُلَانِ: رَجُلٌ غَزَا فِي سَبِيلِ اللهِ حَتَّى يَهْبِطَ مَوْضِعًا يَسُوءُ الْعَدُوَّ، وَرَجُلٌ بِنَاحِيَةِ الْبَادِيَةِ يُقِيمُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَيُؤَدِّي حَقَّ مَالِهِ وَيَعْبُدُ رَبَّهُ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْيَقِينُ» فجثا على ركبتيه، قال: آنت سمعتَه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يا أبا هريرة يقوله؟ قال: نعم، فأتى باديته فأقام بها.
وعن حمدان الأصبهاني قال: كنت عند شريك، وأتاه بعض ولد المهدي، فاستند إلى الحائط فسأله عن حديث، فلم يلتفت إليه، وأقبل علينا، ثم أعاد فعاد بمثل ذلك، فقال: يعني لشريك، كأنك تستخف بأولاد الخلافة، فقال: “لا، ولكن العلم أزين عند أهله من أن يضيعوه”، قال: فجثا على ركبتيه، ثم سأله، فقال شريك: “هكذا يطلب العلم” أخرجه ابن الجعد في “المُسند”.
وطرق التحية تختلف باختلاف الأعراف والتقاليد والبيئات، والأصل فيها الإباحة، ما لم تخالف نصوص الشريعة؛ فإن كثيرًا من هذه الأعراف والتقاليد مبني على مكارم الأخلاق ومحاسن الخصال وجميل الشِّيَم؛ بما يُعرَف بين الناس “بالإتيكيت”؛ الذي يعبِّر فيه الصغير عن احترام الكبير، والكبير عن رحمة الصغير، ونحو ذلك، وكل هذا مما رغَّب إليه الإسلام.
وقد راعى الشرع الشريف أعراف الناس وما يستحسنونه وما يستقبحونه من أفعالٍ وتصرفات، ما دامت لا تخالف مبادئ الإسلام أو أحكامه القطعية الثابتة؛ قال الله تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ﴾ [الأعراف: 199]، وتقرر في ضوابط الفقه: أن هيئات الأكل والشرب واللباس والتحية تجري على أعراف الناس وعاداتهم، ولذلك نص بعض العلماء على استحباب القيام لأهل الفضل إذا جرى العرف بأن ترك القيام منقصة أو استهانة؛ بناءً على أن الأصل في عادات الناس: اعتبار العرف ما لم يخالف الشرع.
قال العلامة ابن مفلح الحنبلي في “الآداب الشرعية والمنح المرعية” (1/ 380-381، ط. عالم الكتب): [وقد استحب ابن الجوزي القيام لمن يصلح القيام له لما صار ترك القيام كالإهوان بالشخص، واستحب ابن عَقيل وغيره الدعاء للمتجشئ إذا حمد الله وقال: إنه لا سنة فيه بل هو عادة موضوعة.. ولأن العرف جار بذلك، والأصل التقرير وعدم التغيير على ما ذكر العلماء، إلا أن يظهر خلافه] اهـ.
وجريان عادة أهل هذه البلاد بالجلوس على الركبتين عند السلام على الكبير والعالم والأستاذ وأهل الفضل لا يعدو أن يكون مظهرًا من مظاهر الاحترام والأدب والتقدير والتوقير والتواضع، الذي جاء جنسُه في الشرع في هيئة التعلم؛ ولذلك فلا مانع منها شرعًا.
وبناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فهذه الهيئة من الجلوس على الركبتين التي تفعلونها عندكم إذا حيَّا الطالبُ أستاذَه والصغيرُ الكبيرَ؛ لغرض الاحترام والتقدير والتوقير: جائزةٌ ولا مانع منها شرعًا، بل هي معدودة من السلوكيات الحسنة والعادات المحمودة في إنزال الناس منازلهم كما أمر الشرع الشريف، وهذه الهيئة وإن كانت من هيئات الصلاة يقوم فيها العبد بالتحيات لله تعالى، إلا أنها ليست مقصورة على ذلك، بل استحبها الشرع في التضرع والدعاء لله تعالى، كما أنها مستحبة في الجلوس إلى العلماء وأهل الفضل، كما جاء في الأحاديث النبوية الشريفة وفعل السلف الصالح.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

السابق
رأى العلماء فى الانتماء إلى القاديانية الأحمدية
التالي
ما حكم منع الأولاد من صلة رحم أمهم

اترك تعليقاً