تأملات قرآنية حول الإعاقة في ظل الإسلام

تأملات قرآنية حول الإعاقة في ظل الإسلام

الحمد لله حق حمده، والصلاة والسلام على خير خلق الله محمد النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم.

لقد أكرم الله عز وجل الإنسانية بأن أرسل رسوله عليه أفضل الصلاة والسلام هاديًا ومبشرًا ونذيرًا،

فأرسله برسالة الإسلام السَّمْحة، التي تدعو إلى العدل بين خلق الله،

وأنَّ الناس سوف تحاسَب على أعمالها وعلى تقوى القلوب،

وليس على أشكالهم، أو ألوانهم، أو أجناسهم، أو عشيرتهم،

أو قدراتهم الذهنية أو البدنية؛ قال تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ

إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13]،

سبحان الله، كأن الله تعالى يقول لنا:

إن الحكمة من تعدد أجناسنا وأحوالنا هو أن نتعرف بعضنا على بعض.

يقول فضيلة الشيخ محمد النابلسي في تفسير هذه الآية الكريمة:

“إن الله خلقَنا شعوبًا وقبائل ليعرف بعضنا البعض، وبعد التعارف لتتعاونوا، وبعد التعاون ليهدي بعضنا البعض؛ تعارف، وتعاون، وهداية”.

ومن هذا المنطلَق، أحببتُ أن أكتب هذه المقالة حول موضوع يشغل ذهني منذ سنوات عدة.

لَطالما أحزنني الفرقُ الشاسع ما بين رحمة الإسلام وعدله،

وما بين العادات والتقاليد التي تهمِّش وتقلِّل من شأن ذوي الإعاقة وذويهم،

هذا الفرق والظلم لا يخفى على أحد، وهو أمر يقال أو يهمس به في جلسات الانتظار عند الطبيب،

وفي ردهات المدارس، وفي ممرَّات ذوي القُربى، وعلى سجادات الصلاة في ظلمات الليل،

وبكل أسف فإن كثيرًا من الناس على عدم معرفة بصعوبة تنشئة الطفل المصاب بالإعاقة،

سواء من بداية المشوار والبحث عن التشخيص الطبي السليم والرعاية الصحية والاجتماعية،

مرورًا بالتنشئة في السنوات الأولى، والتربية السليمة، والتعليم الخاص الذي قد لا يتوفَّر للجميع

وخصوصًا في عالمنا العربي، إلى الظروف العائلية والبيئية الملائمة، انتهاءً إلى الانخراط السليم في

الحياة والمجتمع لمن استطاع.

هذه المقالة تبدأ برفضٍ لكل أنواع التمييز وعدم القبول لهذه الفئة الكريمة من البشر؛ بناءً على

اختلافهم في القدرات أو الأشكال… نظرة ترفض النظرة القاتمة المتأفِّفة، والمتجاهِلة التي يتميز بها

الغالبية العظمى في المجتمع تجاه ذوي الإعاقة.

هذه المقالة تبدأ بإيمان ويقين أنَّ الله جل جلاله عدلٌ في قضائه وأنه أرحم الراحمين، وأنه لا فضل

لعربي على أعجمي، أو صحيح على عليل، أو أبيض على أسْوَد إلَّا بالتقوى.

كل هذا دفعني إلى أن أبحثَ وأطيل التفكير والتنقيب حول نظرة الإسلام إلى الإعاقة،

وأنا أعني هنا الإعاقة بكافة تفرُّعاتها، سواء الإعاقة البدنية، العقلية، التعلُّمية، النفسية، الحركية،

اللغوية، السلوكية والانفعالية، السمعية، البصرية، أو غيرها.

هذه التأملات هي محاولة بسيطة لإعادة الحقوق إلى أصحابها،

وتوضيح ما نسيه أو تناساه بعض الناس، وتقريب هذه الفئة وتمكينهم من أن يتحصلوا على المكانة

التي جعلها رب العباد لهم.

ما هي الإعاقة؟

تعرِّف منظمة الصحة العالمية الإعاقة على أنها “قصور أو خَلل في القُدرات الجسميَّة أو الذهنيَّة،

تَرْجِعُ إلى عواملَ وراثيَّةٍ أو بيئيَّة تُعيقُ الفردَ عن تعلُّم الأنشطة التي يقوم بها الفرد السليم المشابِه

في السنِّ”، هذه الإعاقة قد تكون بسبب “خَلَلٍ جَسَدي أو عَصَبي أو عَقْلي للتركيب البنائي للجسم”،

وأضافت المنظمَّة أنَّ هذا الخلل أو العجز يؤدي بالشخص إلى عدم تمكُّنه من أداء واجباته الأساسية

معتمِدًا على ذاته، أو ممارسة عمله والاستمرار فيه بالمعدل الطبيعي، وحسب التقرير الذي اشترك

فيه كل من منظمة الصحة العالمية والبنك الدولي، فإن هناك أكثر من مليار نسمة في العالم يعانون

من شكل ما من أشكال الإعاقة.

حقيقة الإعاقة في الإسلام:

قال تعالى في محكم كتابه الكريم: ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ

يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ [الحج: 46]، وقال أيضًا:

﴿ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [هود: 24].

ذكر الطبري في تفسير هذه الآية الكريمة: “هذا مثلٌ ضربَه الله للكافر والمؤمن؛ فأما الكافر، فصُمَّ عن

الحق فلا يسمعه، وعَمِيَ عنه فلا يبصره، وأما المؤمن، فسمع الحق فانتَفع به، وأبصَره فوعاه،

وحفظَه وعملَ به”.

وقال عز وجل: ﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ

بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ [الأعراف: 179].

هذه الآيات الكريمة تصف مَن لم يستعملْ حواسه وجوارحه مِن سمْعٍ وبصرٍ وقلوبٍ تَعقِل للوصول إلى

الله تعالى والإيمان به، وَصفَهم بأنَّهم كالأنعام، بل هم أضلُّ؛ لأنَّ الأنعام تؤمن بالله عز وجل.

تأملوا معي هاتين الآيتين الكريمتين من أواخر سورة الكهف: ﴿ وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا *

الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا ﴾ [الكهف: 100، 101].

سبحان الله العظيم! يا له من وصف دقيق وعجيب لأهل الكفر،

وصَف الله تعالى المُعرضين عن الحق الكافرين (والكفر لغةً هو الستر والتغطية على الشيء)

بأنَّ أعينهم لا ترى الحق، وآذانَهم لا تسمع الحق أو حتى تستطيع السمع، أو “لا تعقل كلام الله عز

وجل” كما ورد عن مجاهد رضي الله عنه، وفي هذا فَصَل القرآن الكريم ما بين القدرة على السماع

والقدرة على الفهم، والله أعلم.

إنَّ الإعاقة في نظَر الإسلام هي وصف لمَن لم يستعمل حواسه وجوارحه في الوصول إلى الله تعالى والإيمان به، وليس من ابتُلي بإعاقة عقلية أو سمعية أو بصرية.

دعونا نتأمل هذه النقاط الأساسية في موضوع الابتلاء:

• بني الإسلام على ستة أركان، أولها الإيمان بالله الواحد الأحد، وآخرها الإيمان والتسليم بالقضاء

والقدر. هذا الإيمان وهذه القناعة المترسخة في قلب المؤمن تُعين المبتلَى بالمرض أو بالإعاقة في نفسه أو ولده أو أهله – على أن يُسلِّم ويرضى بقضاء الله تعالى.

لنتأمل كلمات الله عز وجل في هذه الآية الكريمة:

﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ

وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 36].

• الإسلام ينظر إلى الإعاقة على أنها ابتلاء وامتحان من الله تعالى؛ ليُمحِّص الله تعالى المؤمنين

الثابتين الصابرين على تلك البلية؛ ففي إيمان العبد لا بد أن يكون هناك ثقة تامة أن ما أصابه لم يكن

لِيخطئَه، وأن ما أخطأه لم يكن لِيصيبَه، وأن كل شيء مكتوب في علم الغيب عند الله، وأن الله تعالى ما

شاء فَعَل، وأنَّ بيده تصاريف الأمور كلها. هذا الإيمان يقضي بالتصديق بأنَّ ما أصاب العبد هو أمر

مكتوب، ربما كان فيه الخير ولو أن فيه عُسرًا ومشقةً؛ قال تعالى:

﴿ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 19]، وقال عز وجل:

﴿ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ

﴾ [البقرة: 216]، وهنا التفاتةٌ إلى أنَّ الله تعالى خَتَم الآية بقوله: إنَّ العلم محصورٌ عنده وإننا –

نحن البشر – قاصرون عن فهم الصورة الكاملة لواقع أمور قد يبدو ظاهرها أن فيها السوء.

• كثيرة هي الآيات والأحاديث التي تحثنا على الصبر والمصابرة والمجاهدة في الرضا بقضاء الله.

للمزيد حول هذا الموضوع أرجو مراجعة مقالتي في شبكة الألوكة تحت عنوان: تأملات قرآنية

– 27 وسيلة للوصول إلى الصبر والتشبث به.

• المسلم ينظر إلى الإعاقة على أنها دفع للضرر، أو كفارة للذنوب، أو رفع للدرجات، أو تقرُّب إلى الله

تعالى، وأنَّ هناك منحة في المحنة مِن الله تعالى، كما ورد عن رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام:

((إنَّ عِظَم الجزاء مع عِظَم البلاء، وإنَّ الله إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم))، وقال أيضًا:

((أشدُّ الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل؛ يُبتلَى الرجل على حسب دينه،

إن كان دينه صلبًا اشتَد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتُلي على قدر دينه، فما يبرح البلاءُ بالعبد حتى

يتركَه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة))، ووَرد عنه أيضًا صلى الله عليه وسلم:

((إنَّ العبد إذا سبقت له من الله منزلةٌ لم يَبلغْها بعمله،

ابتلاه الله في جسده أو في ماله أو في ولده، ثم صبَّره على ذلك،

حتى يُبلِّغه المنزلة التي سَبَقت له مِن الله تعالى)).

• الإعاقة تدفع إلى الحمد من جهتين؛ من جهة المحيطِين بالمريض أو المعاق،

كما أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إذا رأى أحدكم مبتلى فقال:

الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به وفضَّلني عليك وعلى كثير من عباده تفضيلًا، كان شكر تلك

النعمة))، ومن جهة المعاق الذي يحمد الله تعالى ويرضى بقدر الله. لنتأمل في هذا الحديث العظيم،

قال عليه أفضل الصلاة والسلام: ((أولُ من يُدعَى إلى الجنة الحمَّادون،

الذين يحمدون الله في السراء والضراء))، يا ألله ويا لَرحمته وفيض عطائه!

• تصبير لكل ذي إعاقة: قال صلى الله عليه وسلم:

((ما مِن مسلم يُشاك شوكةً فما فوقها إلَّا رفَعه الله بها درجةً، وحَطَّ عنه بها خطيئةً))،

فإذا كان الإنسان يؤجَر على الشوكة وهي أمر عرَضي لا يؤلم إلا للحظات؛

فما بالك بمن حياتهم كلها أشواك وآلام؟ فهنيئًا لأصحاب الأَسِرَّة البيضاء وأصحاب الابتلاءات وذويهم على

بشرى برضا ورضوان من الله، ومغفرة وحط للخطايا عن كل لحظة، وكل دمعة، وكل ألم.

مراعاة الله عز وجل لذوي الحاجات الخاصة:

دعونا نتأمل كيف راعى الله الرحمن الرحيم ذوي الحاجات الخاصة من خلال النقاط التالية:

♦ الاستبشار بهم وعدم التذمر منهم، والسعي في تعليمهم:

كلنا نعرف قصة الرسول صلى الله عليه وسلم مع الرجل الأعمى في سورة ﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى ﴾ [عبس:

1]، ولو تفكرنا قليلًا في هذه الآية الكريمة، لوجدنا أن الأعمى في هذه القصة – عبدالله بن أم مكتوم

رضي الله عنه – لم يكن له أنْ يرى عُبُوس الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام،

ومع ذلك لام الله تعالى نبيَّه على ذلك التصرف… ووَرَدَ أن الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام كان بعد

نزول تلك الآيات يستبشر عندما يرى ابن أم مكتوم ويقول: ((مرحبًا بمَن عاتبني فيه ربي!)).

فهل لنا – نحن البشر – أن نتفكر في كيفية تعاملنا مع فئة المعاقين مِن البشر الذين قد يسمعون أو

يرون أو يفقهون ما يقال لهم، فيتألمون ويُجرَحون؟ أيضًا الآية الكريمة تذكرةٌ لنا ألَّا نتوانى في تعليم

وي الحاجات الخاصة، وعدم التقليل من قدراتهم، وتوفير الفرص لهم للنجاح والتفوق.

♦ الدعاء لهم وتثبيتهم وتصبيرهم:

ولنا في قصة المرأة التي كانت تُصرَع عِبرة، كما جاء في الحديث عن عطاء بن أبي رباح قال: قال لي

ابن عباس: “أَلا أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟”، قُلْتُ: “بَلَى”، قَالَ: “هَذِهِ المَرْأَةُ السَّوْدَاءُ، أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إِنِّي أُصْرَعُ وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللَّهَ لِي”، قَالَ: ((إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ،

وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ))، فَقَالَتْ: “أَصْبِرُ”، فَقَالَتْ: “إِنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللَّهَ لِي أَنْ لَا أَتَكَشَّفَ”،

فَدَعَا لَهَا.

وورد عنه عليه أفضل الصلاة والسلام أنه أمرَنا بأنْ نعين المريض على مرضه،

بأن نرفعَ من روحه المعنوية والنفسية؛ قال صلى الله عليه وسلم:

((إذا دَخَلْتُمْ على المريضِ، فَنَفِّسُوا لَهُ في أجَلِهِ؛ فإنَّ ذلك لا يَرُدُّ شيئًا، وَيُطَيِّبُ نَفْسَهُ))،

فإن كان الحديث يتكلم عن أصحاب الأمراض المتأزِّمة أو مَن لا يُؤمَّل في برئه وشفائه،

فما بالك بأصحاب الإعاقة وذويهم وحاجتهم الماسة إلى الدعم النفسي والمعنوي المستمر حتى يبقوا

قويِّين وقادرِين على تحمُّل كل جوانب الإعاقة الصعبة؟

ومن الأمور التي تعين على تصبير أهل الابتلاءات أو ذويهم أنْ يُغيِّروا من مفهوم الألم.

لا بد من تغيير فكرة الألم في ذهن الإنسان كما نصح بذلك الدكتور وليد فتيحي في برنامجه الرائع

“ومحياي” حول موضوع الألم، عندما قال: إنَّ الألم في جسد الإنسان يتجاوب مع نظرتنا إليه،

فكأن الألم يتغذى على إحساسنا به، فكلما قال أحدنا في نفسه: “أنا أتألم”، يزداد إحساس الدماغ

بالألم، وينصح الدكتور أنه بدلًا من تغذية ألمنا أننا كلما تذكرنا كلمة “ألم” نتذكر قول الله تعالى:

﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾ [الشرح: 1]، ونُذكِّر أنفسنا بالنعم التي أكرمنا الله تعالى بها، ألم يَهدِك الله

وآخرون في الضلال تائهون؟ ألم يرزقك الله؟ ألم..؟ ألم…؟ هذا التأمل والتفكير يُحوِّل المنع إلى عطاء،

والمحنة إلى منحة، ولعل هذا التفكير الإيجابي هو الذي أعان الصحابي الجليل عروة بن الزبير الذي

قُطعَت رجلُه وتُوفِّي أحد أبنائه في نفس اليوم – على أن يقول: “اللهم لك الحمد، كان لي أطرافٌ أربعة

فأخذتَ واحدًا، وكان لي أولاد سبعة فأخذت واحدًا، ولئن كنتَ أخذتَ فقد أبقيتَ، وإن كنتَ قد ابتليتَ

فلطالما عافيتَ، فلك الحمد على ما أخذتَ وعلى ما عافيتَ”.

♦ عدم السخرية منهم: أمَر الله تعالى بعدم السخرية من أي أحد؛ عسى أن يكونوا خيرًا منهم؛

قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ

عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ

لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [الحجرات: 11]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((المسلم أخو المسلم،

لا يظلمه ولا يخذله ولا يَحْقِرُه، التقوى ها هنا – وأشار إلى صدره – بحسْب امرئ من الشر أن يَحْقِرَ أخاه

المسلم، كل المسلم على المسلم حرامٌ: دمُه، ومالُه، وعِرضُه))، ولو تفكَّرْنا بعض الشيء في مساوئ

الاستهزاء والسخرية، لوجدناها كثيرة، لا تقتصر فحسب على تشتيت الروابط الاجتماعية والأخوية،

وتقليل الشأن بالشخص المُستهزَأ به؛ مما يولِّد الأحقاد والأضغان، وربما الرغبة في الانتقام،

بل ربما وصل الحد إلى قطع الصِّلات وقطع الأرحام.

♦ مؤاكلتهم ومجالستهم والرعاية النفسية لهم:

قال تعالى حول جواز مؤاكلة ذوي الحاجات الخاصة:

﴿ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ

بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ

عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا

جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ

لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [النور: 61]، لقد حيَّرتني هذه الآية الكريمة! فلماذا خَصَّص الله تعالى

الأعمى والأعرج والمريض؟ ولكن زال عجبي بعد أنْ قرأت ما قاله ابن قتيبة في “تأويل مشكل القرآن”:

“كان المسلمون في صدر الإسلام حين أُمِروا بالنصيحة، ونُهُوا عن الخيانة، وأُنزِل عليهم:

﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ﴾ [البقرة: 188]؛ أي: لا يأكل بعضكم مال بعض بغير حق –

أَدقُّوا النظر، وأَفرَطوا في التوقِّي، وترَك بعضُهم مؤاكلةَ بعض، فكان الأعمى لا يؤاكِل الناس؛

لأنه لا يبصر الطعام، فيَخاف أن يُستأثَر، ولا يؤاكله الناس؛ يخافون لضرره أن يَقْصُر، وكان الأعرج يتوقَّى

ذلك؛ لأنه يحتاج لزمانته إلى أن يَتفسَّح في مجلسه، ويأخذ أكثر من موضعه، ويخاف الناسُ أن يسبقوه

لضعفه، وكان المريض يخاف أن يُفسد على الناس طعامهم بأمور قد تعتري مع المرض، مِن رائحة

تتغير، أو جرح يَبِضُّ، أو أنف يَذِنُّ، أو بول يَسْلَس، وأشباه ذلك؛ فأنزل الله تبارك وتعالى: ليس على هؤلاء

جناح في مؤاكلة الناس”.

إذا نظرنا بعمق إلى هذه الآية الكريمة، وجدنا فيها الإنقاذ لهذه الفئة الكريمة من البشر مِن أهم

مشاكل الإعاقة، ألا وهي الانعزال الاجتماعي والوَحدة.

♦ التخفيف في الأحكام: قال الرؤوف الرحيم: ﴿ قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ

شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ

عَذَابًا أَلِيمًا * لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ

وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾ [الفتح: 16، 17]،

ولا بد من التذكير هنا أن هذا التخفيف يختلف من حالة إلى غيرها؛ ففيه التوازن والاعتدال ليناسب كل

شخص حسب إعاقته ودرجة قدرته واستيعابه، ومِن هنا ما ذكره القرطبي في تفسيره “أن الله رَفع

الحرج عن الأعمى فيما يتعلق بالتكليف الذي يشترط فيه البصر، وعن الأعرج فيما يشترط فيه التكليف

من المشي، وما يتعذر مِن الأفعال مع وجود العرج، وعن المريض فيما يؤثر في إسقاطه،

كالصوم وشروط الصلاة وأركانها والجهاد”.

ولقد ورد عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى عليه:

“لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله”، قال:

فجاءه ابن أم مكتوم وهو يُمِلُّها عليَّ لتدوينها، فقال: “يا رسول الله، لو أستطيع الجهاد لجاهدتُ” –

وكان رجلًا أعمى – قال زيد بن ثابت: “فأنزل الله تبارك وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم،

وفخذه على فخذي، فثَقُلت حتى خِفت أن تُرَضَّ فخذي (مِن ثِقَل الوحي)، ثم سُرِّي عنه،

فأنزل الله عز وجل: ﴿ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ ﴾؛ [النساء: 95].

فيا لَرحمة الله في العطف على عباده! ومراعاة مشاعر وقدرات ذوي الحاجات الخاصة في اليسر

والتخفيف في الأحكام التكليفية ورفع الحرج، مِن باب ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾

[البقرة: 286]، فسبحان الله العظيم الذي هو أرحم بنا مِن أمهاتنا! فله الحمد والشكر كما ينبغي لجلال

وجهه وعظيم سلطانه.

ولنا أنْ نتذكر أنَّ المعاق إن كان ذا إعاقة شديدة كالجنون والعته، فإن القلم مرفوع عنه؛

روت عائشة رضي الله عنها أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال:

((رُفِع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يكبر، وعن المجنون حتى يعقل)).

♦ عدم نعتهم بألفاظ وأوصاف جارحة: أود أنْ أذكر الْتِفاتةً ذكرها الدكتور أحمد نوفل، وهي أنَّ كلمة مجنون قد وردت 11 مرة في القرآن الكريم، وأنَّ العجيب في ذلك أنها جميعًا وردت في وصف أقوام الأنبياء لرسلهم بالجنون، وأنَّ القرآن الكريم ينفي صحة هذا النعت؛ تأملوا الآيات:

1. ﴿ وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ﴾ [الحجر: 6].

2. ﴿ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ﴾ [الشعراء: 27].

3. ﴿ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ ﴾ [الصافات: 36].

4. ﴿ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ ﴾ [الدخان: 14].

5. ﴿ فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ﴾ [الذاريات: 39].

6. ﴿ كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ﴾ [الذاريات: 52].

7. ﴿ فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ ﴾ [الطور: 29].

8. ﴿ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ ﴾ [القمر: 9].

9. ﴿ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ﴾ [القلم: 2].

10. ﴿ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ﴾ [القلم: 51].

11. ﴿ وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ﴾ [التكوير: 22].

هنا خاطرة لنا: أنَّ مَن ينعت ذوي الحاجات الخاصة بالجنون والتخلف، فهو –

أو هي – على منهج أهل الجاهلية، فلنحذر مما تجنيه ألسنتنا وخواطرنا؛ قال تعالى في محكم كتابه:

﴿ قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى

كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ

أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل عمران: 29، 30]. هذه الفئة الكريمة تستحق

كل احترام وكل تقدير في التعامل والتحاور والتفكير.

• عدم التقليل من شأنهم ودورهم في المجتمع: قال تعالى في سورة طه على لسان موسى عليه

السلام: ﴿ قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي *

وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا *

وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا * قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى ﴾ [طه: 25 – 36]، لطالما أحببْنا هذا

الدعاء وقرأْناه مستبشرين به وبحلاوته، فهلا تفكرنا أنه – حسب ما ورد – كان لأن موسى عليه السلام

كان عنده عثرة في الحديث؛ ولهذا طلب مِن الله تعالى أنْ يعينه ويشد من أَزْره بأخيه هارون،

وهي التفاتة لأهل الإعاقة ومَن حولهم أنه لا بأس مِن طلب المساعدة ومِن توفيرها لمساعدة شخص

على تأدية عمله.

لقد ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم استخلف عبدالله ابن أم مكتوم مرتين على المدينة،

وكان يؤذِّن مع بلال بن رباح لجمال صوته، وهو رجل أعمى،

ولم يبالِ ابن أم مكتوم بفقد بصره، فشارَك في معركة القادسية تحت قيادة سعد بن أبي وقاص،

ووقف مستندًا على ذراع أحد المسلمين يعتلي ربوةً عاليةً وهو يصيح: “ادفعوا إليَّ اللواء؛

فإني أعمى لا أستطيع أنْ أفِرَّ، وأقيموني بين الصفَّين”،

ويحاول المسلمون ثَنْيه عن عزمه وهو يصيح ويطالب باللواء، حتى نال نعمة الشهادة في هذه

المعركة.

ولنا مثال آخر في الصحابي الجليل عبدالرحمن بن عوف أحد العشرة المبشرين بالجنة،

حيث أصيب في معركة أُحُد عدة إصابات في مختلف أنحاء جسده، سَبَّبت إحداها عرَجًا دائمًا في

ساقه، والأخرى أسقَطت ثناياه وتركت تأثيرًا واضحًا في نُطقه،

فإذا به يستمر بالتصدُّق ولم يَعزل نفسه عن المجتمع.

ولنا في كثير من العلماء والصالحين قدوة،

فكثير منا لا يعلم أن الفقيه عطاء بن أبي رباح كان أسودَ، أعرج، أشلَّ،

ولكن كان يُرجَع إليه في الفتوى في مواسم الحج، وكثير منا لا يعلم أنَّ العالم الجليل ابن الأثير صاحب

كتاب “الأصول” (11 مجلدًا) وكتاب “النهاية في غريب الحديث” (4 مجلدات)،

كان مُقعَدًا لا يستطيع القيام، وكثير منا لا يعلم أن محمد بن سيرين أحد أتباع التابعين كان أصمَّ،

ورغم صعوبة ذلك، فإن سيرته حافلة بالعلم والتقى، والحرص على الحلال في التجارة.

♦ حفظ حقوقهم المالية والمعنوية:

كلنا يعلم أن التكليف مرهون بالعقل؛ أي: إنَّ المصاب بالجنون أو التخلف العقلي مرفوعٌ عنه القلم وأنه

غير مسؤول عن واجبات العبادة والمعاملات، كما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم،

لكن عدم مسؤوليته شرعيًّا لا تعني أنه لا يَستحِق أن يُحافَظ على حقوقه المالية والإنسانية؛

فقد أجمع العلماء أن حقوق المصاب بالجنون لا تسقط بسبب عجزه عن إدارة أمواله والمحافظة عليها؛

وإنما تُعطَى له مِن خلال وليِّه والقائم على رعايته.

لكن ماذا عن أصحاب الإعاقة العقلية التي هي دُون درجة الإصابة بالجنون؟

هنا يجب فهم الفرق ما بين معنى كلمة “المجنون” و”السفيه”،

فـ”الجنون” هو الفقد الكلي للتمييز ما بين الصواب والخطأ، أما “السفيه”

فهو مَن يبذر المال على غير مقتضى العقل والشرع ولو كان في جوانب الخير،

فهو ناقص للعقل، خفيف الحِلم، لا يُحسِن التصرُّف.

قال الله عز وجل:

﴿ وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا

* وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا

وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ

فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ﴾ [النساء:

5، 6]، هذه الآية الكريمة يجب أنْ تكونَ أساسًا، بل قانونًا في فنِّ التعامل المالي مع ذوي الحاجات

الخاصة، فكثير من هذه الفئة الكريمة ينطبق عليهم الوصف القانوني والشرعي لمعنى

“السفيه” مِن نقص أو قصور في القدرات العقلية، وعدم القدرة على اتخاذ القرارات السليمة.

شرح الشيخ النابلسي – رعاه الله – كلمة ﴿ أَمْوَالَكُمُ ﴾ [النساء،

5] بأن المعنى هنا هو أموالهم وليس أموالكم، وأن هذا التعبير هو كما جاء في قوله عز وجل:

﴿ لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ﴾ [النساء: 29]، قال: “لِمَ لمْ يقل الله عز وجل:

لا تأكلوا أموال بعضكم؟ قال: ﴿ لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ ﴾ [النساء: 29]؛ لأن مال أخيك هو مالُك،

من زاوية واحدة، مِن زاوية وجوب المحافظة عليه:

يجب أن تحافظ عليه وكأنَّه مالُك، فلأَن تمْتَنِعَ عن أكله بالحرام مِن باب أولى،

فهذه لطائف بلاغِيَّة في

كتاب الله عز وجل”، ولو تأملنا أكثر في هذه الآيات من سورة النساء، لوَقَفنا على رحمة الله وعطفه بأن

يُذكِّر الوصي الشرعي بأنْ يكون قولُه معروفًا، وأنْ يعطي الفرصة للشخص الذي تحت رعايته والمجال

إن أَثبت أنه تطوَّر أو تمكَّن مِن السيطرة على قدراته العقلية بأن تدفع له حقوقه وتُرفَع عنه الوصاية إن

أثبت أهليته، وختَم الله الكريم الآيةَ بوعدٍ بأنه الحسيب الذي سيحاسب الناس على كل حق أُهدِر،

يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا مَن أتى الله بقلب سليم.

هذه الآية الكريمة تعطي قمة الرحمة، وقمة العدل، وقمة الحرص على مستقبل كريم،

وقمة الاحترام لإنسانية وحقوق ذوي الحاجات الخاصة المادية والمعنوية.

وأحب أن أختم هذه المقالة بهذه الكلمات لمن لم يُبتلَ بالإعاقة:

• تذكَّر أنَّ الإعاقة في الإسلام هي وصف لمن لم يَستعمل حواسَّه وجوارحه في الوصول إلى الله

تعالى والإيمان به، وليس من ابتُلي بإعاقة عقلية، سمعية، بصرية، أو تعليمية، أو غيره.

• لا تحكم على الآخرين بأن الله تعالى ابتلاهم لضعف فيهم،

أو عاقبهم بالابتلاء جزاءً على ما اقترفوه من معاصٍ؛ فالحَكَم هو الله الجبار الذي يَجْبُر القلوب

المكسورة، ويُنَفِّس عن كرب المكروبين ولَوْعة المصابين.

• كن رفيقًا في اختيارك لكلماتك في وصف الشخص المعاق،

تذكَّر أنه شخص وإنسان أو طفل؛ فلا تقل: “طفل منغولي” أو “طفل مُتوحِّد”

أو “رجل أعمى” أو “امرأة طَرشَاء”، وإنما قل: “طفل مصاب بالمنغولي”

، و”طفل مصاب بالتوحُّد”، و”شخص مصاب بفقد البصر”؛

فرُب كلمة عطوفة تَجبُر بها خاطرًا وترفع بها همةً؛ قال الرسول صلى الله عليه وسلم:

((إنَّ الرَّجُلَ ليتكلمُ بالكلمةِ مِنْ رضوان الله لا يُلقي لها بالًا يرفعه الله بها درجاتٍ،

وإنَّ العبدَ ليتكلم بالكلمة من سَخَطِ الله لا يُلقي لها بالًا يهوي بها في جهنَّم)).

• حثَّ الإسلام على زيارة المريض والسعي في خدمته؛

ولنتأمل الحديث القدسي: ((إنَّ الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا بن آدم،

مرضتُ فلَم تعُدْني، قال: يا ربِّ، كيف أعودُك وأنتَ رب العالمين؟

قال: أمَا علمتَ أنَّ عبدي فلانًا مرض فلم تعُده؟ أما علمتَ أنك لو عُدتَه لوجدتني عنده؟

يا بن آدم، استطعَمتُك فلَم تُطعِمني، قال: يا رب، وكيف أُطعِمك وأنت رب العالمين؟

قال: أمَا علمتَ أنه استَطعمَك عبدي فلان فلم تُطعِمه؟ أمَا علمتَ أنك لو أطعمتَه لوجدتَ ذلك عندي؟

يا بن آدم، استَسقيتُك فلَم تَسقِني، قال: يا رب، كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟

قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقِه، أمَا إنك لو سَقَيتَه وجدتَ ذلك عندي؟)).

فأنت أخي أو أختي، عندما تزور أهلَ المصائب مِن أمراض وغيرها،

تُدخِل السرور على قلب المُصاب، وتُخفِّف عنه الهمَّ والنكد، والإحساس بالوَحدة والعجز.

• لا أحد معصوم من بلاء الإعاقة بكل أشكالها،

فلَطالما أصبح أشخاص يمشُون انتهَوا على الأسِرَّة البيضاء مع نهاية النهار،

أو مَن أصبَح سليمًا في عقله فإذا به يُبتلَى بأمور نفسية أو عصبية أو عقلية تؤثِّر على يومه وحياته.

• حصِّن نفسك ومَن حولك بأذكار الصباح والمساء: ومِن الأدعية التي تأتي إلى البال مباشرةً –

ونحن بصدد الحديث عن أمراض القلوب والأبدان والنفوس –

هذا الدعاء الرائع الذي يجب أن يدرَّس في محاضرات علم النفس وعلم الأخلاق:

قال عليه أفضل الصلاة والسلام: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ،

وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ،

وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَالِ))، وقال في دعاء آخر:

((اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من القسوة والغفلة،

والعيلة، والذِّلة والمسكنة، وأعوذ بك من الفسوق والشقاق والنفاق،

والسمعة والرياء، وأعوذ بك من الصمَم والبكم، والجنون والبرص والجذام، وسيِّئ الأسقام)).

• قدِّم يدَ العَون مِن دون أن تنتظر أن يُطلب منك ذلك،

قد يكون العون متمثِّلًا في أذن مصغية، وظهْر يستند عليه.

تذكر وأنت تقدم يد العون أنَّ غرضك هو أن تخفِّف عن إنسان،

لا أنْ تفهم قضايا مرضه وخصوصيته وتُرضي حبَّ الاستطلاع عندك.

تذكر أن تحترمه كإنسان قرين لك، ليس أقل شأنًا منك، بالعكس.

احمَد الله سرًّا في قلبك أنْ جعلك ممَّن يُقدِّم العون لا من يستلمُه،

وهذا فضل كبير وتاج خفيٌّ لا يراه إلا أصحاب الابتلاءات.

الحمد لله حق حمده على كُل نعمة تَعوَّدنا وجودَها فنَسينا شكرها،

وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

السابق
من هو صقر قريش
التالي
تأملات قرآنية في اسمه تعالى الضار النافع

اترك تعليقاً