
احداث موقعة صفين
بعد انتهاء معركة الجمل حرص علي بن أبي طالب رضى الله عنه على هودج السيدة عائشة رضي الله
عنها، ونقله إلى أفخم بيوت البصرة، وعندما أرادت السيدة عائشة رضي الله عنها أن تذهب إلى مكة،
أرسل معها أربعين من أشرف نساء البصرة المعروفات، كما أرسل معها أخاها محمد بن أبي بكر،
وأرسل معها أيضًا عمار بن ياسر، ومجموعة من الجنود لحمايتهم جميعًا، وسار مع القافلة بنفسه بعض
الأميال مشيّعًا، كما سار الحسن، والحسين رضي الله عنهما مسافة أكبر خلف السيدة عائشة رضي
الله عنها حتى سلكت طريق مكة.
وقد ودّعت السيدة عائشة رضي الله عنها الناس قبل أن تغادر البصرة، وقالت لهم: لا يعتب بعضنا على
بعض، إنه والله ما كان بيني وبين عليّ في القدم، إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها -أي أقارب زوجها- وإن عليًّا لمن الأخيار.
فقال علي رضى الله عنه: صدقت، والله ما كان بيني وبينها إلا ذاكَ، وإنها لزوجة نبيكم في الدنيا
والآخرة.
فهذه هي نظرة كل منهما للآخر.
مكثت السيدة عائشة رضي الله عنها في مكة، حتى حجّت هذا العام 36هـ، ثم عادت بعد الحج إلى
المدينة المنورة.
بعد أحداث الجمل بايع أهل البصرة جميعًا عليًّا رضى الله عنه، سواءً من كانوا معه، أو من كانوا عليه،
وتمكن رضى الله عنه من الأمور، وولّى على البصرة بعد أن تم له الأمر فيها عبد الله بن عباس رضي
الله عنهما، ثم ترك البصرة، وتوجّه إلى الكوفة التي كان أغلب جيشه منها، ونزل في بيت متواضع،
ورفض أن ينزل في قصرها الذي كان يُسمّى القصر الأبيض؛ لأن عمر بن الخطاب رضى الله عنه كان
يكره هذا القصر لفخامته، ومكث رضى الله عنه في الكوفة ليسيطر على الأمور، ودانت له البصرة
والكوفة، وهي مناطق كبيرة، وبها من الجنود الكثير، ولا زال بعض من أهل الفتنة في جيش علي
رضى الله عنه إلى هذا الوقت، منهم من قُتل في معركة البصرة الأولى التي قُتل فيها ستمائة،
وكثير منهم قُتل في معركة الجمل.
أما مصر فقد كان على إمرتها أثناء خلافة عثمان رضى الله عنه عبد الله بن سعد بن أبي سرح،
وقد خرج بجيشه من مصر متوجهًا لنجدة عثمان رضى الله عنه، ولكنه لمّا علم بمقتله توجه إلى الشام،
وكان ممن يرى رأي معاوية بن أبي سفيان، وطلحة، وعائشة، والزبير رضوان الله عليهم جميعًا مِن أخذ
الثأر لعثمان رضى الله عنه من قَتَلَتِه قبل البيعة.
وتولّى الأمور في مصر، وسيطر عليها محمد بن أبي حذيفة الذي كان أحد أقطاب الفتنة مع كونه تربى
في كنف عثمان بن عفان رضى الله عنه، وأحد أبناء المجاهدين البررة حذيفة بن عتبة الذي استشهد
في اليمامة، ولما لم يعطه عثمان رضى الله عنه الإمارة لعدم رؤيته لكفاءته نقم عليه، وتعاون مع عبد
الله بن سبأ في الفتنة، وتقلّد الأمور بعد ذلك في مصر، وكان معاوية رضى الله عنه في الشام على
مقربةٍ من مصر، وهي أقرب إليه من المدينة، ومن العراق، فلما حدثت الفتنة، وحدثت معارك البصرة
أرسل معاوية رضى الله عنه جيشًا صغيرًا لمحاربة أهل الفتنة في مصر، فخرج له محمد بن أبي حذيفة
في العريش بسيناء، وتقاتلا، وقُتل محمد بن أبي حذيفة، ومعه ثلاثون آخرون من أهل الفتنة،
وقبل أن يتمكن جيش معاوية رضى الله عنه من مصر أرسل علي بن أبي طالب رضى الله عنه قيس
بن سعد أحد رجالاته إلى مصر للسيطرة على الأمور، فذهب، ومعه سبعة من الرجال، فأسرع إليها
قبل جيش معاوية، وسيطر عليها، وصعد المنبر، وأعلن أنه يبايع عليًّا رضى الله عنه، فبايعه أهل مصر
جميعًا إلا فئة قليلة جدًّا انحازوا إلى قرية (خربته) بمنطقة البُحَيْرة بمصر، وتركهم قيس بن سعد درءًا
للحرب في ذلك الوقت، وتمكّن لعليٍّ رضى الله عنه الأمر في مصر في ذلك الوقت، ولم يعجب هذا
الأمر معاوية رضى الله عنه، فأرسل رسالة إلى قيس بن سعد والي مصر من قِبَل علي بن أبي طالب
رضى الله عنه، وأقام معاوية رضى الله عنه الحجة على قيس بن سعد، وأن معاوية رضى الله عنه
يتتبع قتلة عثمان، ويأخذ بثأره ممن قتلوه.
كان قيس بن سعد بعيدًا عن علي بن أبي طالب رضى الله عنه فهو في مصر بينما علي رضى الله عنه
في العراق، وبينهما معاوية رضى الله عنه في الشام.
لم يردّ قيس بن سعد على رسالة معاوية بن أبي سفيان رضى الله عنه ردًّا حازمًا صريحًا،
بل كان في رسالته تردد في الأمر، وأُشيع في الشام أن لقيس بن سعد علاقة في السرّ مع معاوية،
وخشي علي بن أبي طالب رضى الله عنه أن تنقلب الأمور في مصر، ويتكرر ما حدث في البصرة،
فعالج الأمر بأن عزل قيسًا، وولّى مكانه محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، وذكرنا قبل ذلك
أن محمد بن أبي بكر كان الصحابي الوحيد الذي شارك ابتداءً في أمر الفتنة، ولكنه رضى الله عنه تاب
على يد عثمان رضى الله عنه، ورجع عن ما كان عليه، بل ودافع بسيفه عن عثمان رضى الله عنه،
ولكنه لم يستطع أن يثنيهم عن قتل عثمان رضى الله عنه، وشهدت له بذلك السيدة نائلة بنت
الفرافصة زوجة عثمان رضي الله عنهما، وبعد ذلك بايع عليًّا رضى الله عنه، وحسن عمله، ونحسبه
على خير، والله حسيبه، ولا نزكي على الله أحدًا.
دانت السيطرة لعلي بن أبي طالب تمامًا على مصر، وبعدما عُزل قيس بن سعد رضى الله عنه رجع
إلى علي بن أبي طالب، واعتذر له عن كون ردّه على معاوية رضى الله عنه كان فيه شيءٌ من التردد
مما أثار الشكوك حوله، فقبل منه علي بن أبي طالب رضى الله عنه، واشترك قيس بن سعد في
جيش علي رضى الله عنه.
أرسل علي بن أبي طالب رضى الله عنه، وهو في الكوفة رسالتين إحداهما إلى جرير بن عبد الله أمير
من قِبَل عثمان بن عفان رضى الله عنه على (همذان) في أرض فارس، وطلب منه المبايعة،
فبايع جرير رضى الله عنه كل أهل (همذان)، وأتى بالمبايعة إلى علي بن أبي طالب رضى الله عنه.
والرسالة الأخرى إلى الأشعث بن قيس في (أذربيجان) فأخذ له البيعة من أهلها، فتمت لعلي بن أبي
طالب رضى الله عنه البيعة في كل منطقة شرق العراق، وأصبحت كل مناطق الكوفة، والبصرة،
وما يليها من البلاد تحت إمرة علي بن أبي طالب رضى الله عنه، وكذلك المدينة المنورة، ومكة،
واليمن، ومصر، ولم يتبق إلا منطقة الشام فقط لم تبايع عليًّا رضى الله عنه، والدولة الإسلامية كلها قد
اتفقت على أمير واحد هو علي بن أبي طالب رضى الله عنه وأرضاه، ولم يخالف إلا إمارة واحدة هي
إمارة الشام، وإن كانت إمارة كبيرة.
وكانت مشكلة كبيرة تحتاج إلى وقفة حازمة من علي رضى الله عنه، فأرسل جرير بن عبد الله البجلي
أحد صحابة النبي صلى الله عليه وسلم إلى معاوية بن أبي سفيان رضى الله عنه؛ لكي يتحاور معه
من أجل الوصول إلى حل لتلك المشكلة دون الدخول في حرب بين المسلمين، خاصة بعد موقعة
الجمل المُرّة، والتي راح ضحيتها عشرة آلاف من المسلمين، وذهب جرير بن عبد الله رضى الله عنه
إلى معاوية رضى الله عنه، وعرض عليه أن يبايع عليًّا رضى الله عنه جمعًا لكلمة المسلمين، وتجنبًا
للحرب بينهم، فجمع معاوية رضى الله عنه رءوس الشام، وفيهم الكثير من الصحابة، والفقهاء، وكبار
التابعين، والقضاة، واستشارهم في الأمر، فاتفق اجتهادهم جميعًا على عدم المبايعة إلا بعد أخذ الثأر
من قتلة عثمان بن عفان رضى الله عنه، وقالوا: إن علي بن أبي طالب قد آوى قتلة عثمان بن عفان،
وعطّل حدًّا من حدود الله، ومن ثَم لا تجوز له البيعة.
وكان معاوية رضى الله عنه يرى أنه ولي دم عثمان، وأنه لا بدّ من الأخذ بثأره من هؤلاء القتلة، وأنه لا
يجوز له بحالٍ أن يقصّر في هذا الأمر، وتأوّل قول الله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ
سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي القَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} [الإسراء: 33].
ومعاوية رضى الله عنه هو ولي ابن عمه عثمان بن عفان رضى الله عنه، وقد قالت له السيدة نائلة بن
الفرافصة رضى الله عنها: أنت وليّه. وحمّلته هذه المسئولية في الأخذ بثأره ممن قتله.
والآية تشير أن لولي المقتول الحق أن يعفو، أو أن يأخذ له الأمير القصاص، ولا يُحكَّم طالب الدم، ومن
ثَم كان لا بدّ أولاً من وجود حاكم قد بايعه الناس أولاً، ويذهب طالب الدم إلى الحاكم بعد أن يبايعه أولاً،
ثم يطالبه بالقصاص، لا أن يمتنع عن البيعة، ويطالب بالقصاص، ولكن معاوية رضى الله عنه رفض
الاستجابة لجرير بن عبد الله، بل أرسل هو رسلاً إلى علي بن أبي طالب رضى الله عنه أنه لا يبايعه إلا
بعد أن يسلّمه قتلة عثمان بن عفان، أو يقتلهم هو، وبعدها يبايعه.
ويرى علي بن أبي طالب رضى الله عنه أن هذه الفئة هي الوحيدة الخارجة عليه من كل الدولة
الإسلامية، ومن ثَم تجب محاربتها لردها إلى الحق، وإلى جماعة المسلمين، ولكنه قبل أن يبدأهم
بحربٍ يحاول أن يقرّب وجهات النظر، وأن يسلك مع أهل الشام مسلك التهديد بقتالهم، إن لم يبايعوا،
ويعودوا إلى جماعة المسلمين، فأمر بتجميع الجيوش، واستشار الناس، فأشار الجميع بأن تخرج
الجيوش، وأن يخرج علي رضى الله عنه بنفسه مع الجيش، وكان ممن عارض خروجه ابنه الحسن،
ورأى أن قتال أهل الشام سوف يأتي بفتنة عظيمة، لكن علي رضى الله عنه كان يريد أن يقمع الفتنة
من جذورها، وأن يحسم الأمر من بدايته.
خروج الفريقين إلى صفين
خرج علي بن أبي طالب رضى الله عنه من الكوفة، وعسكر في منطقة النخيلة خارج الكوفة،
واستخلف على الكوفة عقبة بن عامر الأنصاري أحد البدريين من صحابة رسول الله r، وأرسل علي
رضى الله عنه مقدمة جيشه نحو الشام، وتقدمت هذه المقدمة، حتى تجاوزت نهر الفرات،
ووصلت إلى منطقة تُسمّى (صفين)، وتتبع علي بن أبي طالب رضى الله عنه المقدمة بجيشه.
ووصلت الأخبار إلى معاوية رضى الله عنه أن علي بن أبي طالب قد خرج بجيشه من العراق متوجهًا
إلى الشام؛ لإجبار أهلها على البيعة، فاستشار معاوية رضى الله عنه رءوس القوم، فأشاروا عليه بأن
يخرج لجيش علي رضى الله عنه، وألا ينتظر في أرض الشام حتى يأتوه، كما أشاروا عليه أن يخرج
بنفسه مع الجيش كما خرج علي بن أبي طالب رضى الله عنه مع جيشه، ووافق رضى الله عنه على
هذا الرأي، وخرج بنفسه على رأس الجيش،
وقد كان من مؤيدي الخروج عمرو بن العاص رضى الله عنه، والذي قام وخطب الناس قائلاً:
إن صناديد أهل الكوفة والبصرة -أي عظماءهم وشجعانهم- قد تفانوا يوم الجمل، ولم يبق مع علي إلا
شرذمة قليلة من الناس، وقد قُتل الخليفة عثمان بن عفان أمير المؤمنين، فالله الله في حقكم أن
تضيعوه، وفي دمكم أن تتركوه – أي دم عثمان رضى الله عنه، وحمّس عمرو بن العاص الناس على
القتال، وعُقدت الألوية، وخرج معاوية رضى الله عنه بالجيش، وأرسل مقدمة جيشه تجاه جيش علي
بن أبي طالب رضى الله عنه.
كان عُمْر عمرو بن العاص رضى الله عنه، وهو يحمّس الناس في هذا الوقت للقتال 86 سنة، فكان
شيخًا كبيرًا، وهو من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووردت أحاديث كثيرة في فضله رضى
الله عنه، ولا ينبغي لأحد أن يظن أنه رضى الله عنه، وهو في هذه الفترة من عمره يفكر في الإمارة،
أو الدنيا، وهو على أبواب لقاء الله تعالى، ولقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كان على مقدمة جيش علي بن أبي طالب رضى الله عنه زياد بن النضر، وعلى مقدمة جيش معاوية
رضى الله عنه أبو الأعور السلمي، وتلتقي المقدمتان في منطقة صفين.
وأرسل علي بن أبي طالب رضى الله عنه أوامره إلى مقدمته يقول لهم: ادعوهم إلى البيعة مرة بعد
مرة، فإن امتنعوا، فلا تقاتلوهم حتى يقاتلوكم، ولا يقرب منهم أحد قرب من يريد الحرب، ولا يبتعد عنهم
أحد بعد من يهاب الرجال.
وعرضت مقدمة علي بن أبي طالب رضى الله عنه البيعة على مقدمة معاوية بن أبي سفيان رضى الله
عنه مرة بعد مرة، لكنهم رفضوا البيعة، وبدأ الأعور السلمي من مقدمة معاوية القتال، ودار بينهم القتال
ساعة، وسقط بعض القتلى والشهداء، ثم تحاجزوا، كان ذلك في أوائل شهر ذي الحجة سنة 36هـ،
أي بعد حوالي سبعة شهور، أو ثمانية من موقعة الجمل، وفي اليوم التالي تناوشت المقدمتان ساعة،
ثم تحاجزوا، بعد أن سقط بعض القتلى، والشهداء من الفريقين.
في اليوم الثالث جاء علي بن أبي طالب رضى الله عنه بجيشه، وجاء معاوية بن أبي سفيان رضى الله عنه بجيشه.
كان تعداد جيش علي بن أبي طالب رضى الله عنه مائة وعشرين ألفًا، وجمع معاوية رضى الله عنه من
أهل الشام وحدهم تسعين ألفًا، وهي أرقام ضخمة لم تصل إليها جيوش المسلمين من قبل، فقد كان
تعداد المسلمين في اليرموك ستة وثلاثين ألفًا، وفي القادسية ثمانية وثلاثين ألفًا، بينما هم اليوم في
صفين مائتان وعشرة آلاف، وكلهم من المسلمين، مائة وعشرون ألفًا مع علي بن أبي طالب رضى الله
عنه، وتسعون ألفًا مع معاوية بن أبي سفيان رضى الله عنه.
عندما يصل معاوية رضى الله عنه إلى أرض صفين يجد نهرًا يغذي تلك المنطقة كلها، فيسيطر على
النهر، ويقطع الماء عن جيش علي بن أبي طالب رضى الله عنه، ويكاد جيش علي رضى الله عنه أن
يموت عطشًا بعد أن قُطع عنه الماء أكثر من يوم، ويتقاتل الفريقان على الماء، وفي آخر هذا اليوم
أرسل علي بن أبي طالب رضى الله عنه صعصعة بن صوحان إلى معاوية بن أبي سفيان رضى الله
عنه يقول له: إنا جئنا كافّين عن قتالكم، حتى نقيم عليكم الحجة، فبعثت إلينا مقدمتك، فقاتلتنا قبل أن
نبدأكم، ثم هذه أخرى تمنعوننا الماء.
واستشار معاوية رضى الله عنه رءوس قومه في الأمر، فقال عمرو بن العاص رضى الله عنه:
خَلِّ بينهم، وبين الماء، فليس من الإنصاف أن نشرب، ويعطشون.
فقال الوليد، وهو أحد من استشارهم معاوية رضى الله عنه: دعهم يذوقون من العطش ما أذاقوا أمير المؤمنين عثمان بن عفان حين حاصروه في الدار.
فكان هذا رأيًا آخر، والذي حاصر عثمان رضى الله عنه، ومنعه الماء إنما هم أهل الفتنة، وهم يقولون: إن جيش علي يأوي هؤلاء القتلة، ويجب أن يذوقوا ما ذاقه عثمان بن عفان.
فقال عبد الله بن سعد بن أبي سرح: امنعهم الماء إلى الليل، فلعلهم يرجعون إلى بلادهم.
وبعد تشاور، وتباحث بين الفريقين اتفقوا على أن يشرب الجميع من الماء دون قتال.
فكان ديدنهم -سبحان الله- أن يقاتلوا حتى إذا كفّ القتال، ذهبوا جميعًا، فشربوا من الماء دون أن يتقاتلوا عند الماء، ثم يأخذ كل فريق قتلاه من ساحة المعركة، فيدفنوهم، ويصلّون عليهم، وهكذا كل يوم.
في اليوم الثالث من هذه الحرب أرسل علي بن أبي طالب رضى الله عنه مجموعة أخرى لمعاوية
رضى الله عنه، فأرسل له بشير بن عمرو الأنصاري، وسعيد بن قيس، وشُبيس بن ربعي،
وقال لهم: ايتوا هذا الرجل -يعني معاوية- فادعوه إلى الطاعة، والجماعة، واسمعوا ما يقول لكم.
فلما دخلوا على معاوية، بدأ بشير بن عمرو الأنصاري، فقال: يا معاوية، إن الدنيا عنك زائلة، وإنك راجع
إلى الآخرة، والله محاسبك بعملك، ومجازيك بما قدمت يداك، وإني أنشدك الله ألا تفرّق جماعة هذه
الأمة، وألا تسفك دماءها بينها.
فقال له معاوية رضى الله عنه: هلاّ أوصيت بذلك صاحبكم – يعني عليًّا رضى الله عنه.
فقال له: إن صاحبي أحق هذه البرية بهذا الأمر؛ لفضله، ودينه، وسابقته، وقرابته، وإنه يدعوك إلى
مبايعته، فإنه أسلم لك في دنياك، وخير لك في آخرتك.
فقال معاوية رضى الله عنه: ويُتْرَك دم عثمان، لا والله لا أفعل ذلك أبدًا.
فالقضية عند كل من الطرفين واضحة تمامًا، ولا يرى أي خطأ فيما يراه، ويقاتل كل منهما على رأيه
حتى النهاية.
وتفشل المفاوضات، وتبدأ المناوشات مرةً أخرى بين الفريقين، وفي كل يوم تخرج من كل جيش
مجموعة تقاتل مجموعة من الجيش الآخر، وفي آخر اليوم يتحاجز الفريقان، ثم يعودان للقتال من جديد
في اليوم التالي، وهكذا طوال شهر ذي الحجة، وفي تلك السنة أمّر علي رضى الله عنه على الحج
عبد الله بن عباس، فأتم مهمته، ورجع بعد حجه إلى جيش علي بن أبي طالب رضى الله عنه.
وفي شهر المحرم تهادن الفريقان، وحاولا الإصلاح، ولكن دون جدوى، وأرسل علي بن أبي طالب رضى
الله عنه عدي بن حاتم الطائي أحد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معاوية بن أبي سفيان
رضى الله عنه، ومع عدي يزيد بن قيس، وشُبيس بن ربعي، فقام عدي بن حاتم رضى الله عنه، فحمد
الله وأثنى عليه ثم قال:
أما بعد يا معاوية، إنا جئنا ندعوك إلى أمر يجمع الله به كلمتنا، وأمرنا، وتُحقن به الدماء، وتأمن به
السبل، ويُصلح ذات البين، إن ابن عمك سيد المسلمين، أفضلها سابقة، وأحسنها في الإسلام أثرًا،
وقد استجمع له الناس، وقد أرشدهم الله بالذي رأوا، فلم يبق أحد غيرك، ومن معك من شيعتك.
ثم قال له كلمة قاسية شديدة قال: فانته يا معاوية، لا يصبك مثل ما أصاب أصحاب يوم الجمل.
فقال له معاوية: كأنك إنما جئت مهددًا، ولم تأت مصلحًا، هيهات، والله يا عدي، إني لابن حرب لا يُقعقع
لي بالشنئان.