جهد الداعية مع أهل بيته وعشيرته شاهدنا في قصة الهجرة
أمرًا لا بد أن نقف معه وقفة،
أرأيتم كيف استعمل الصّدّيق عائلته كلها في سبيل الله؟ أرأيتم كيف
استعمل عبد الله ابنه في نقل الأخبار؟ وكيف استعمل أسماء ابنته في
نقل الطعام والشراب؟ وكيف استعمل عامر بن فهيرة مولاه في إخفاء آثار
الأقدام؟ لقد نقل الصّدّيق حبّه لهذه الدعوة إلى عائلته وأهله، بعض
الدعاة -للأسف- يعانون من مرض العزلة عن عائلاتهم، تجد لهم نشاطًا
عظيمًا في خارج بيته، ثم هم لا يُشركون أقرب الأقربين إليهم في العمل
لله، لا يحرصون على أن يذيقوهم من حلاوة الإيمان التي أحسوا بها،
هذا غياب كبير للفهم، وضياع هائل للأولويات،
تعلموا من الصّدّيق، وتذكروا: «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»
(صحيح مسلم[1829]). كان هذا هو الدرس العاشر من دروس الهجرة
المباركة، فتلك عشرة كاملة.
ولا شك أن دروس الهجرة أضعاف ذلك،
ولكن لا يتسع المجال لمزيد من التفصيل.
نهاية مرحلة وبداية عهد جديد بهذه الهجرة السعيدة الناجحة تمت مرحلة
مهمة، بل مهمة جدًّا من مراحل السيرة النبويّة،
تمت المرحلة المكيّة بكل أحداثها وآلامها ومشاكلها،
إنها مرحلة ذات طابع خاص بل وخاصٍّ جدًّا، بدأ الإسلام فيها غريبًا،
واستمر غريبًا إلى قرب نهايتها، إلى أن آمن الأنصار،
ورضي الله عن المهاجرين، وعن صحابة رسول الله أجمعين. كان الاهتمام الرئيسي لرسول الله في هذه المرحلة أن يبني الج
انب العقائديّ عند الصحابة، لا يؤمنون بإله غير الله، لا يتوجهون بعبادة لأحد سواه، لا يطيعون أحدًا يخالف أمره، يتوكلون عليه، ينيبون إليه، يخافون عذابه، يرجون رحمته، إيمان عميق برب العالمين، وإي
مان برسوله الكريم وبإخوانه من الأنبياء والمرسلين،
واعتقاد جازم بأن هناك يومًا سيبعث فيه جميع الخلائق،
سيقوم فيه الناس لرب العالمين يحاسبون على ما يعملون،
لن يظلم في ذلك اليوم أحد، لن تغفل الذرة والقطمير، إنها والله إما الجنة أبدًا أو النار أبدًا. وإلى جانب العقيدة الراسخة،
فقد تعلم المؤمنون في هذه المرحلة الأخلاق الحميدة،
والخصال الرفيعة، هُذِّبَت نفوسُهم، وسَمتْ أرواحهم، وارتفعوا عن قيم
الأرض وأخلاق الأرض وطبائع الأرض، إلى قيم السماء وأخلاق السماء
وطبائع السماء، لقد نزل الميزان الحق الذي يستطيع الناس به أن يقيِّموا
أعمالهم بصورة صحيحة، وعرف المؤمنون في هذه المرحلة أن الطريق
الطبيعيّ للجنة طريق شاقّ صعب، مليء بالابتلاءات والاختبارات،
ما تنتهي من امتحان إلا وهناك امتحان آخر،
تعب كلها الحياة،
والله يراقب العباد في صبرهم ومصابرتهم وجهادهم،
ولن يُستثنى أحد من الاختبار، ويُبتلى المرء على حسب دينه.
ومع كون المرحلة بكاملها كانت عبارة عن فقرات مختلفة من الإيذاء
والتعذيب، سواء على الروح أو على الجسد،
إلا أنها كانت لا تخلو من سعادة، بل كانت كل لحظاتها سعيدة،
لكن ليست السعادة الماديّة الحسيّة التي يجدها الناس في طعام أو
شراب أو شهوة، إنما سعادة الروح والقلب، سعادة الطاعة لله،
سعادة الأنس بالله، سعادة الصحبة لرسول الله،
سعادة الصلاة ومناجاة الله، سعادة الأخوة والألفة بين المؤمنين،
سعادة الدعوة إلى الله، سعادة الثبات أمام كل فتن الدنيا؛
سواء في الجسد أو في الهجرة أو في أنواع الإغراءات بالمال أو بالنساء
أو بالسلطة، سعادة عظيمة، وأيّ سعادة،
لقد كانت الفترة المكية بمنزلة الأساس المتين للصرح الإسلامي الهائل.
من المستحيل أن يجتاز المسلمون خطوات كبدر والأحزاب وخيبر وتبوك،
دون المرور على فترة مكّة، من المستحيل أن تُبنى أمة صالحة، أو تنشأ
دولة قوية، أو تخوض جهادًا ناجحًا، أو تثبت في قتال ضارٍ، أو تقف بصلابة
أمام كل فتن الدنيا إلا بعد أن تعيش في فترة مكّة بكل أبعادها. على
الدعاة المخلصين أن يدرسوا هذه المرحلة بعمق، وعليهم أن يقفوا أمام
كل حدث، وإن قصر وقته أو صغر حجمه وقوفًا طويلاً،
هنا البداية التي لا بد منها،
بغير مكّة لن تكون هناك المدينة،
وبغير المهاجرين لن يكون هناك أنصار،
وبغير الإيمان والأخلاق والصبر على البلاء لن تكون هناك أمة ودولة
وسيادة وتمكين. كانت هذه هي فترة مكّة الجميلة،
نعم الجميلة؛
لأنها تحكي قصة رسول الله،
وما زالت لنا جولات مع فترة جميلة أيضًا من فترات حياة رسول الله،